متلازمة العقدة في الثقافة السياسية العربية
إسهاما في إثراء النّقاش بشأن الثّقافة السّياسية، بمناسبة الدورة التاسعة لمؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية، والذي نظّمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات في الدوحة من 11 - 13 مارس/ آذار 2023، والذي خُصّص مفهوم "الثّقافة السّياسية" موضوعاً لها، كتبت هذه المطالعة التي تتّصل بالموضوع، ولكن من زاوية العقدة أو العُقد التي تتلازم مع الظّاهرة في البيئة العربيّة وكيف يمكن أن تُفكّك، في سعي إلى إرساء أمل التّغيير في المستقبل المنظور باعتباره أملا للأمّة.
قد يكون من نافلة القول الانطلاق بتعريف المفهوم، وفق ما طرحه الباحثون في العلوم السّياسية، حيث اتّفقوا على أنّ الثّقافة السّياسية تشير إلى جملة المعتقدات والرُّؤى التّي يطوّرها الفرد بشأن الإشكالات والقضايا السّياسية على غرار السُّلطة، الانتخاب، التّداول على السُّلطة، الدّيمقراطية إلى غيرها من القضايا المتّصلة بالسّياسة أو إدارة شؤون النّاس مما بات يُعرف بالسّياسات العامّة، قبولا ورفضا، انتقادا أو طرحا للبدائل بخصوص ما يمكن أن يُحقُّق النّجاعة والرّشادة في تلك السّياسات العامّة.
من ناحية أخرى، يجدر القول إنّ من المثير للدّهشة أنّ الثقافة السّياسية العربيّة ليست معقدة في باب دراستها بالمقاربات الأكاديمية المُتاحة في العلوم السّياسية، ذلك أنّها تحمل، في طيّاتها، متلازماتٍ كثيرةً تطبع وتيرة الصُّور النّمطية التي تحملها السُّلطة والشُّعوب، على حدّ سواء، عن إشكاليّات القضايا والظّواهر السّياسية التي يمكن تسميتها بالعُقد، ذلك أنهّا أضحت مسلّماتٍ لا فكاك منها، تستدعي وقفات توضح ماهية تلك الثّقافة السّياسية، ثم لماذا نصرُّ على أنّها عقد ملازمة للثّقافة السّياسية العربيّة. ولأنّ تلك العُقد تبقى كذلك إلى أن تفكّك، تشخيصا وعلاجا، كما قام بذلك عبد الرّحمن الكواكبي في "طبائع الاستبداد ..."، أو عبد الوهّاب المسيري، ملك بن نبي أو أنور الجندي، في مشاريع انبعاث الأمّة، بطرح أسباب الانهزام الدّاخلي أو دواعي القابليّة للاستضعاف.
من المسلّم به، في بيئتنا، القول بوجود ثقافة سياسيّة عربيّة متردّدة بين القديم من الظّواهر المأثورة عن مقاربة ممارسة السُّلطة، وجود الدّولة وحالة الرّعية فيها والجديد منها بعد نيل الدُّول العربية استقلالها وسعيها إلى إيجاد أنماط من السُّلطة، جمهورية كانت أم ملكية، إضافة إلى استقرارها على مقاربة العلاقة بينها وبين المواطن، من خلال عقد اجتماعي يتضمّن مفردات تلك العلاقة، والتّي تتراوح بين الاعتراف لذلك المواطن ببعض الحقوق والواجبات والممارسة المتطابقة أو غير المتطابقة مع مثيلاتها من الممارسة، في غيرها من الدُّول.
أدوات الكشف عن الصور النّمطية لإشكالات القضايا السّياسية تحتاج إلى عمليّات سبر الآراء، أساسا، وهي شبه منعدمة إلا فيما ندر
أولى تلك العُقد، نلاحظها في التردّد في تصنيف أبناء العالم العربي بين الرّعية والمواطن في فضاء الثّقافة السّياسية العربية، ذلك أنّ الاستقرار على أيّهما الأجدى في الاستخدام يتوقّف على مطابقة تلك الممارسة السّقف الموجود عند الفضاءات الأخرى عبر العالم. وينجرُّ عن ذلك التردُّد في التّصنيف، تبعا لذلك، أنّ مستوى الطّاعة المطلوبة من الرّعية لا يتطابق مع ما يُطلب من المواطن، إذ إنّ العقد الاجتماعي بالنّسبة للأوّل هو في اتّجاه واحد، أي لفائدة السُّلطة ويترك لها الباب واسعا، للحكم كما تريد من دون رادع أو صوت يرتفع ليصدّها عما يمكن أن يكون تجاوزا، بينما يفسح العقد الاجتماعي للمواطن هوامش من الحرّية، لأنّ العلاقة تفاعلية بين الطّاعة، من ناحية، ومنظومة الحقوق والواجبات، من ناحية أخرى. وهذا ما لا نجده في العالم العربي، إذ إنّ التّصنيف، هنا، بفعل ذلك الاتّجاه الذّي أخده العقد الاجتماعي في غلق الباب، تماما، أمام المعارضة - أو التّغذية الاسترجاعية (قنوات التّعبير عن ردود الأفعال)، كما نسمّيها في العلوم السّياسية، باعتبارها ردود الأفعال قبولا و/ أو رفضا لسياسات السُّلطة من المواطنين، يرجّح مفردة الرّعية على مفردة المواطن إلى حين مراجعة مضمون العقد الاجتماعي، في أولى خطوات رفع تلك العُقد التي سنأتي عليها، تباعا.
ثمّة ملاحظة هامّة يجب إيرادها، وتتعلّق باستحالة القيام بدراسات إمبريقية (تجريبية) عن الثّقافة السّياسة في الوطن العربي، لأنّ أدوات الكشف عن الصور النّمطية لإشكالات القضايا السّياسية تحتاج إلى عمليّات سبر الآراء، أساسا، وهي شبه منعدمة إلا فيما ندر، كما أنّ الدّراسات الجامعية، البحوث والرّسائل، على حدّ سواء، يندر أن تناقش أمورا شائكة لها صلة بالثّقافة السّياسية، لأنّ الحرّية الأكاديمية لا تسمح بذلك أو أنّ إتاحة الأدوات (المراجع، الإشراف، المخابر، إلخ ...)، الحرّية الأكاديمية إضافة إلى التّمويل، تكاد تكون غير موجودة بالنّظر إلى حساسية التطرُّق لهذه الإشكاليات التي قد تكشف، إذا تمّ القيام بهذا النّوع من البحوث والدّراسات، عن مكامن الخلل في تلك الثّقافة السّياسية، أو قد تفتح أعين المواطنين عن قضايا لا يتمُّ تناولها أو الحديث عنها على غرار منظومة الحقوق والواجبات، العقد الاجتماعي، العدالة، القيم السّياسية، الدّيمقراطية، مقاربات الحكم، مؤشّرات رشادة الحوكمة، نجاعة/ فشل السّياسات العامّة، البرامج السّياسية، الانتخابات، التّرشُّح الحرّ، التّداول على السُّلطة، الانقلاب العسكري، العلاقة بين المدني والعسكري، وغيرها من إشكالات تُعدُّ من التابوهات أو المحرّمات بالنّسبة للمواطن العربي.
تتمثّل العقدة الثّانية في الرّبط السّببي بين الاستقرار والتّداول على السُّلطة، حيث لا تكاد تجد الثّقافة السّياسية في العالم العربي، في الدُّول الجمهورية أو في الملكيات، إلا وهي مركّزة على أنّ القيمة الأولى للحكم هي الاستقرار، وأنّها لا تتحقّق إلا بالإبقاء على النُّخبة الحاكمة نفسها، وأن أيّ محاولة للّعب على وتر الثّقافة السّياسية لتغيير مضمونها من خلال أدوات الانتخاب أو الاختيار، من خارج دائرة النُّخبة الحاكمة، بمثابة مغامرة نحو المجهول، ستكون تداعياتها وخيمة على الاستقرار.
تعمل الثّقافة السّياسية على ترسيخ التّمجيد الواجب للنّخبة الحاكمة، وتمتين قيمة الولاء، في داخلها
ولذلك، تعمل الثّقافة السّياسية على ترسيخ التّمجيد الواجب للنّخبة الحاكمة، وتمتين قيمة الولاء، في داخلها، للسُّلطة وللاستقرار بالشُّروط التي تمليها عملية تجسيد ثنائية الحكم والخلافة من داخل تلك النُّخبة، مع منع كلّ ما شأنه ترسيخ ثلاثية التّداول على السُّلطة من خلال دوران النُّخب وتجديدها، لتكون الثقّافة السّياسية، في العالم العربي، بالنتيجة، بمضمون واجب التّرسيخ بقيم الولاء، التّداول والخلافة من خلال النُّخبة الحاكمة، من جهة، وبمضمون واجب المنع بترسيخ استحالة التّداول على السُّلطة، إلا بمقاربات النخبة الحاكمة، من جهة أخرى، ومعها منع مبدأي دوران النُّخب وتجديدها، وذلك كله مجسّد ومغروس في وعي الأمّة، تحت مسلّمة تُرفع إلى مصاف قيم الأمن القومي، وهي الاستقرار في المضمون الأوّل، والخراب بالمضمون الممنوع.
تشير العقدة الثّالثة إلى وجوب بناء منظومة الرُّؤية للماضي، التّاريخ بمكوّناته، من خلال ثقافة سياسية موجّهة ومُتحكّم في سرديتها، لأنّ الرُّموز، القُدُسية المتأتية من ذلك، سرديات التّاريخ، إضافة إلى مفردات ذلك الماضي ومقاربات استدعائها، في كلّ مناسبة، هي حقّ حصري للسُّلطة، لأنها من مدخلات تجسيد الشّرعية، حيث إنّ صناعة الهويّة التّاريخية أو الشّخصية التّاريخية، كانت وما تزال، في العالم العربي، من أولويّات السُّلطة، تتعامل معها على أنّها المُخوّلة الوحيدة برواية ذلك التّاريخ، ترفع من تشاء إلى مصاف الوطنيّة وتضع من تشاء، موردة لتاريخه ضمن الخيانة في صناعة جديدة ومتجدّدة لمعاني الوطنية المرتبطة بالثّقافة السّياسية للولاء، للحكم وللشّرعية، بصفة خاصّة.
تزعم السُّلطة، من خلال العقدة الرّابعة، أن تبقى المعارضة لسياساتها العامّة حكرا على نخبةٍ تثق في ولائها، اعتقادا منها أنّ ذلك يمنع من التّعامل مع الشّأن السّياسي بالارتهان للخارج. ولهذا، كلّما ترسخت لدى المواطن قناعة أنّ ثمّة عدم نجاعة في السّياسات العامّة أو أنّ منظومة الحقوق والواجبات غير متطابقة مع مضمون العقد الاجتماعي، فإنّ السُّلطة تغلق مداخل ردود الأفعال ومخارجها، أي غلق مجال الفضاء الاحتجاجي أو الإعلامي، على حدّ سواء، حتى لا يبقى، في السّاحة، إلا الولاء المُتمثّل في الرّأي الذّي يجد مبرّراتٍ لذلك الفشل، أو ينفي وجوده، أصلا، أو من المعارضة المضمونة التّي تُعبّر عن رأيها في إطار هوامش يسمح بفتحها على أن لا تكون ذات صلة بالتّجديد للنُّخبة السّياسية أو التّداول على السُّلطة. وهو ما اعتدنا على سماعه، للمفارقة، من أحزاب ونخبة سياسية بقولها إنّ هدفها ليس الوصول إلى السُّلطة، بل مساندة برنامج السُّلطة أو التّرديد، المتواصل، أنّ المصلحة في رؤية أنّ الفشل نجاح، وأنّ الفشل هو من الشّعب، حصرا لأسبابٍ أصبحت تتردّد على ألسنة تلك النُّخبة الموالية للسُّلطة أو من خلال وسائل إعلام تتحكّم فيها أو تابعة لها، بصفة كاملة.
السّرديات المناقضة لسردية السُّلطة تُعتبر مساسا بالهويّة الجامعة المرادفة، في الثّقافة السّياسية للسُّلطة، للولاء ولمنظومة الحكم وفق رؤيتها
تقوم السُّلطة بتحديد مضمون الهويتين الجامعة والخاصّة، ذلك أنّ الإشكالية، بالنّسبة لها، تتكوّن من مفردات القضايا التي تراها غير متناقضة مع العقد الاجتماعي وفق تسطيرها له. في الحقيقة، هناك هويّتان في كلّ بلد، إحداهما جامعة تتضمّن مفردات الهويّة التي توجد التّناسق المجتمعي وتوحّد بين أبنائها، على غرار العلم، النّشيد الوطني، الحدود، سرديات التّاريخ، طبيعة النّظام في الدّولة، وكلّ ما من شأنه التّعبير عن قيم الوحدة الجامعة لكلّ الشّعب. أمّا الهوية الخاصّة فمتّصلة بكل ما هو محلّي من أطباق، موسيقى، لهجة أو لباس، ممّا لا يكون ضارّا بالهويّة الجامعة، من ناحية، ومما يمكن اعتباره تنوّعا فلكوريا وتراثا شعبيا يفيد الأمّة كلّها، من ناحية أخرى.
يأتي عمل السُّلطة، هنا، في قولبة هذه الهويّة الجامعة، بحيث إنّها لا تتضمّن إلا ما يخدم سرديتها للقضايا الخاصة بالسّياسة والحكم، أو تلك التّي لها صلة بالتّداول على السُّلطة ومقاربتها لتجديد النُّخب ودورانها، وأيّ خروج عن السّردية هو ولاء لقيم مضادّة للسُّلطة، يمكن أن ترتفع إلى مصاف الخيانة، ذلك أنّ السّرديات المناقضة لسردية السُّلطة تُعتبر مساسا بالهويّة الجامعة المرادفة، في الثّقافة السّياسية للسُّلطة، للولاء ولمنظومة الحكم وفق رؤيتها، وإدراكها لقيمة الاستقرار أو التّهديد/ الاستهداف للدّولة، وفق رأيها.
نصل، في العقدة الخامسة، إلى محاولة السُّلطة التّوافق مع ما توقّعه من معاهداتٍ دُولية تضمن بها بعضا من الحقوق والواجبات الخاصّة بالمواطن، فتعمد إلى تضمين الدُّستور، الوثيقة التّي تتضمّن العقد الاجتماعي، شروط ممارسة المواطن حرية التّعبير، جردا بحقوق وواجبات ذلك المواطن في ممارساتٍ عديدة لحقّه في الاحتجاج، موقفه أمام القضاء، حريّته في التّرشُّح والانتخاب، في حين أنّ ذلك كلُّه يكون بقيود نصوص تطبيقية، تُقيّد ما يمنحه العقد الاجتماعي، فلا حرّية تعبير ولا إمكانية لردّ الفعل بالاحتجاج على قرارات السُّلطة، بل ولا ضمان لحقوق المواطن وكرامته أمام القانون ما يجعل من ذلك النّص الأعلى، ضمن المنظومة القانونية للدّولة، مفرغ من أي محتوى، كما أنّ ذلك النّص لا يعكس القيم التي ينافح النظام عنها ويقول إنه ضمنها للمواطن. وبالنّتيجة، بسبب تلك التّجاوزات، يمكن القول إن ذلك المواطن هو رعيّة، ولا يرتقي إلى رتبة المواطنة بمكوناتها، ألبتّة.
يرفض المواطن سردية السُّلطة للتاريخ كما أنه، من ناحية أخرى، يطوّر أدواتٍ تملأ الفراغ الذّي تتركه السُّلطة في باب توفير الخدمات
يقابل تلك الثّقافة السّياسية، في عقدة سادسة، ما يقوم به المواطن لمواجهة تلك الثّقافة السّياسية للسّلطة بكلّ مقوّماتها حيث إنّه، للمحافظة على أدنى مؤشّرات ممارسته مواطنته، طوّر مقاربات ممارسة حريّته خاصّة في باب المشاركة السّياسية، التي مُنعت عنه، بالعزوف عن الانتخابات، لتكون تلك المؤسّسات فاقدة للشّرعية، بل إنّ المواطن طوّر مقاطعة لكل ما تريده السُّلطة، فهو لا يذهب إلى حيث توجد رموز السُّلطة، لا يشاهد قنواته، لا يقرأ صحفه، بل إنّه يذهب، بعيدا، أحيانا، بأن يقرّر عدم دفع ضرائبه. يرفض المواطن سردية السُّلطة للتاريخ كما أنه، من ناحية أخرى، يطوّر أدواتٍ تملأ الفراغ الذّي تتركه السُّلطة في باب توفير الخدمات فيوفّر العلاج لبعض الفئات المهمّشة، يجمع تبرُّعات ويستغلُّ فراغات القوانين لإنشاء جمعيّاتٍ يعمل، من خلالها، على ممارسة بعض من النّشاطات التّي قيّدتها السُّلطة ويعاقب المواطن، بواسطتها، على إبداعه لتلك الثّقافة السّياسية المناقضة لقرارات السُّلطة، في هذا المجال، كما سبق الإشارة إليه.
تستدعي تلك العُقد تفكيكا قصد إرساء منهجية تغيير/ تحوّل ديمقراطي. ويمرُّ ذلك، بادئ ذي بدء، ببناء ثقافة سياسيّة تنطلق من عقد اجتماعي يضع الأسس لمنظومة حقوقٍ وواجباتٍ ترتقي بالرّعية إلى رتبة المواطنة، توجد التّفاعل بين طرفي معادلة ذلك العقد، أي السُّلطة والشّعب، وصولا إلى تجسيد دولة القانون ونموذج ديمقراطي حقيقي.
تصنع تلك العقد ثنائية الهشاشة والفشل وتفكيكها، في منظور متوسّط المدى، وبتفكيكها يمكن إرساء سياق ومسار تعاف (Resilience)، لكن ذلك لا يتحقّق إلا من خلال ثلاثة إجراءات حيويّة: مراجعة الوثيقة الأساسية بقصد وضع عقد "دستور" جديد، ضمان دوران/ تجديد النُّخب ثمّ، في الأخير، بناء نموذج اقتصادي يعتمد على الاقتصاد الحقيقي، وليس الرّيع الذي ينتج تلك الثّقافة السّياسية بعُقدها المذكورة.