متى ستذهب سورية إلى الصناديق؟

22 ديسمبر 2024
+ الخط -

يسجل التاريخ السياسي لسورية بعد رحيل الانتداب الفرنسي (1946) وحتى انقلاب آذار (1963) الذي جاء بالبعثيين إلى السلطة، ممارسات ديمقراطية على المستوى الشعبي، متمثلة بانتخاب ما كان يطلق عليه المجلس، أو الجمعية التأسيسية، بحسب السياق السياسي لسورية التي شهدت نبضات ديمقراطية تتلوها أخرى عسكرية، مع دوامة الانقلابات التي عاشتها بعد الانتداب. وجاءت الانتخابات الحقيقية الأخيرة في ما سُمي مجلس التأسيس البرلماني الذي أعقب فترة الوحدة مع مصر (1961). كان عمر ذلك المجلس 450 يوماً فقط، قبل أن تُطفأ جذوة الديمقراطية وتنتهي كل أشكال الانتخابات الحرّة بمجيء حزب البعث، بأشكاله وأجنحته السياسية والطائفية، وصولاً إلى عام 1970 حيث انفرد حافظ الأسد بالسلطة، وأسّس حكماً فردياً عائلياً امتدّ إلى ما يقرب من 55 عاماً، انتهت بهروب بشّار في 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، تلاشت خلال فترته الطويلة الذكريات الديمقراطية، وقد هرم كل من شهد الانتخابات الأخيرة، فأصبحت مجرّد تاريخ جرى التعتيم على تفاصيله، بالإضافة إلى وصف السلطة اللاحقة له بالرجعية.

في صبيحة الفجر الجديد، وجُرعة التفاؤل الغامرة التي أحاطت بالسوريين بعد التخلص من بشّار، اتجه التفكير فوراً نحو الصندوق، أمانيّ كانت مكبوتة أو مغيّبة في باطن العقل السوري، لم يجرؤ أحد على أن يتكلم عنها سابقاً. كان يُكتفى ربما بالحلم بها في غفلةٍ عن كل رقيب، وأصبح الآن يشعر بأن عليه أن يتوقّف عن الحلم، ويبدأ فوراً بإعداد نفسه لمواجهة الصندوق بورقة انتخابية، لا يُجبره أحدٌ على طريقة إملائها. يرغب جميع السوريين في خوض هذه التجربة، رغم أن الأمر لم ينضج بعد، فلا بد من بنيةٍ تحتيةٍ مناسبة، حتى يتمكّن السوري من خوض هذه التجربة، وأمامه تحدّيات حقيقية عديدة، فما زالت آثار النظام السابق على شكل أسلوب عمل في المؤسّسات التي خلفها وراءه، وصوره وشعاراته ما زالت موجودة في ضمائر بعض الناس الذين جرى تحذيرهم وتخديرهم بشكل منظم طوال فترة الحكم السابقة، ويجب أن يخضع كل شيء اليوم لعملية كنس عميقة لنستطيع البدء من جديد.

المرحلة الأولى ضمان الأمن، وهو العامل الأساسي للبدء، فقد ذهب النظام وألقى أسلحته في الشوارع وعلى مفارق الطرق، وأصبحت متاحة في أيدي كثيرين، بالإضافة إلى حفنة من خلايا لم تجد طريقاً لها للهرب ما زالت نائمة، ويمكن أن تنشط في أي لحظة. لذلك، تثبيت الأمن حاجة ملحّة وأولوية، يجب أن توضع في المقام الأول قبل أية ممارسة. وفي المقام الثاني، يجب وضع أسس جديدة للمجتمع، فدستور النظام وقوانينه واستثناءاتها لا تمكّن من الوصول إلى قيادة دولة حديثة وعصرية. وهذه أولوية أخرى، تقع على عاتق النخب الثقافية والقانونية في سورية، ويجب أن تخضع لموافقة الشعب عليها. وقبل هذا وذاك، لا بد أن يتحسّن الواقع الاقتصادي بشكل كبير، فسورية في حالة "كوما" اقتصادية، من دون موارد، وبخزينة فارغة، وفي حالة بحث عن حلفاء يمكنهم تقديم العون. لذلك، ضخّ الحياة في مؤسّسات واستثمارات جديدة أمر ملحّ، وتحسين وضع الخدمات أمر ضروري آخر.

مهمّات كثيرة وصعبة تنتظر الفريق الحاكم، ولن تكون مهلة الثلاثة أشهر كافية لتبدأ سورية بالتحرّك والإنتاج، فقد يحتاج ذلك فترة أخرى قد لا تقلّ عن عام، يجري فيها التركيز على كل النقاط السابقة، قبل التفكير في أي إجراء سياسي داخلي، مع الوضع بالاعتبار إطلاق العنان لأي تحرّك سياسي هادف ذي شعارات وطنية واضحة. وفيما يبدو على بعضهم الاستعجال بنياتٍ حسنة أو سيئة، لا بأس باستيعاب هذا كله، واحتضانه مرحلياً، فقبول الجميع ضروري، والكل معنيون بما سبق ذكره، وعلى عاتقهم جميعاً المساهمة فيه وإنجاحه. ومن الممكن فعلاً أن يكون قد كتب لسورية عصر جديد يليق بها بعد عقودٍ مظلمةٍ لا يجب أن تُحسب من تاريخها العريق.