متى يُكتب أدب المقتلة في غزّة؟
يشيع بين أهل الآداب والفنون ودارسي ظواهرهما أن زمناً ليس قصيراً يلزم أن ينقضي على الوقائع الثقيلة في المجتمعات والأمم، قبل أن تكتب عنها، أو استيحاء منها، النصوص والأعمال الأدبية الكبرى، فنحو خمسة عقود انقضت قبل أن يكتب تولستوي روايته "الحرب والسلام" التي عُدَّت من عيون الآداب العالمية، واستوحَت أحداثَها من غزو نابليون بونابرت روسيا. ولئن يبدو هذا القول وجيهاً، بالنظر إلى حاجة كل كتابةٍ إلى وقتها الكافي، لتتمثّل ما تنشغل به وتعبّر عنه، وبالنظر أيضاً إلى أن لكل واقعةٍ رُواتها ومحكيّاتها وزوايا نظر متنوّعة إليها، وهذه كلها تمتدّ في أزمنةٍ لا تتوقّف، وهذه غوايةُ الذهاب إلى التاريخ تكاد تُصبح ظاهرة في راهن الرواية العربية مثلاً، ولا مبالغة في الزعم هنا إن من أقوى النصوص الروائية العربية الجديدة (في الأعوام العشرين الأخيرة مثلاً) ما تعجن مادّتها من هناك، من تاريخ بعيد، من وقائع مضت قرونٌ عليها، أو مائة عام وأكثر. ... ولأن النقاش في هذا الأمر شائكٌ (وشائق) بعض الشيء، يُسأل هنا، ما على صلة به ربما: متى تُكتب النصوص العالية، الشعرية والسردية، بشأن مقتلة الإبادة الجارية في قطاع غزّة، الإبادة الأكثر مأساويةً وشناعةً منذ الأطوار الأولى للتغريبة الفلسطينية المديدة؟ من هم الذين سيكتبون كل هذه الآلام التي تتحدّى القرائح والمخيّلات؟.
نشرت وزارة الثقافة الفلسطينية، قبل شهور، ثلاثة كتبٍ على قدرٍ من الأهمية، ضمّت نصوصاً حارّة، وجدانيةً وشعريةً وقصصيةً وتأمليةً وحرّة، وطلقة، ذاتية وفردانية، كتبها أدباء وفنانون، معظمُهم شابّاتٌ وشبّان، من هناك، حيث المقتلة نفسها، من غزّة. ونشر "العربي الجديد" ما سمّاها "نصوص الحرب والحياة في غزّة"، دوّنها 80 كاتباً وفناناً من هناك أيضاً، ويصدُر قريباً كتابٌ في جزأيْن يضمّان هذه النصوص وأخرى غيرها. والقيمة الأبرز في هذه الكتابات أن أصحابها بثّوا فيها أنفاسهم وهم في مراكز الإيواء وخيام النزوح وبين البيوت المهدّمة، وفي أوضاعٍ وأحوال كارثية، وتحت سماء تُمطرهم، وأهاليهم، بمقذوفات القتل والفتك والتمويت. كتبوا نصوصهم هذه، في غضون لحظاتٍ شديدة السخونة. لم يكتبوا تسجيلاً ولا توثيقاً، وإنما كتبوا أدباً خالصاً، حاولوا فيه قول الذي تفيض به جوانحُهم وهم يحاولون النجاة من موتٍ يلاحقهم، كما يلاحق كل الناس هناك.
نفتقد في حياتنا الثقافية العربية الشغل النقدي الجادّ، الذي يتابع ويفكّك ويحلّل، ويقرأ في النصوص ظواهر وخصائص وسماتٍ وأبعاداً. ثمّة كسلٌ مريعٌ في هذا، واستسهالٌ ظاهرٌ ومزاجياتٌ معلومة، ونقصانٌ في كتّاب النقد الذين يدركون أدواته ومنهجيّاته، ويتمتّعون بحسّ الذائقة العالي. ولذلك، لن يكون مفاجئاً أن تُترك هذه النصوص في هذه الكتب، وما قد يعقُبها من نصوصٍ وفنونٍ أخرى من غزّة، فتتناولها استرسالاتٌ انطباعيةٌ عابرة، فلا تُحرز ما تستحقه من تناولٍ يضعها في متن الأدب الفلسطيني العريض في سيرورته الموصولة بماضٍ ممتدٍّ وحاضرٍ وأفقٍ بعيد وقريب.
ولكن، ليست هذه النصوص التعبير الأوسع عن المقتلة الطويلة في غزّة منذ 8 أكتوبر (2023)، ليست الأعمال التي تضجّ بفرادة الألم العام، واستثنائية المذبحة المتنقّلة. ثمّة الملحمي العريض، والنص المفتوح على التاريخ والأساطير والمعتنقات، والسرد أو الشعر الذي يسائل الصاروخ القاتل عن حمولته الكارهة، ويستنطق القاتل، ويجول في أشواق الغزّيين إلى حياةٍ أقلّ موتاً. ثمّة العملُ غير الملحمي، المثقل بكثافته، الممتلئُ بتحليقه في ملكوت أطفالٍ انقضّت عليهم المقذوفات، وأخذتهم إلى مقابر لا شواهد لها. ثمّة تنويعاتٌ لأدبٍ يطوفُ في خياراتٍ واقتراحاتٍ جماليةٍ وبنائيةٍ ليس في الوسع، اللحظة، تعيينُها، فلم تُكتب بعد النصوص الكبرى هذه، المنتظر أن تتمثّل غزّة وظلالها، وأن تكون من رفيع الأدب وعاليه. لنقُل إن وقتاً طويلاً يلزم أن ينقضي قبل أن نعايش، وبعدَنا أجيالٌ تالية، أنفاسَ الغزّيين، وهم في المسغبة الباهظة، في الموت الثقيل، في متاهات المحو الذي أُريد لهم، نُعايشها في سردياتٍ وقصائد ومسرحياتٍ ومروياتٍ ومحكياتٍ وأغانٍ ورسومٍ وجدارياتٍ وملاحم وقصص، امتصّت وقائع ما بعد 7 أكتوبر، حضر فيها الأحياء والميّتون، المقاومون والصامدون، النازحون والهاربون، الصغار والكبار، النساء والشيوخ والأطفال والرجال، الجميع.
لننتظر أدباً عظيماً عن المقتلة في غزّة ... بعد حين.