مثقّف أم "مقدّم" ثقافة؟
واحدة من أكثر الفعاليات حضوراً وتفاعلاً في معرض العراق للكتاب المقام أخيراً في بغداد كانت مواجهة بين اليوتيوبر المصري، أحمد الغندور، صاحب البرنامج المعلوماتي الشهير "الدحيح" وجمهور قدِم بعضُه من محافظات بعيدة، جلّه من الشباب الصغار بالسنّ.
أثار هذا الحضور "المهيب" لغطاً على مواقع التواصل الاجتماعي ما بين مرحّب ومستهجن، لكنّه بالنسبة للمراقب والمتابع لن يكون مستغرباً، فهناك سياقٌ دأبت عليه معارض الكتب العربية باستضافة "مؤثّرين" على مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى فنّانين ومقدّمي برامج مشهورين، ترويجاً للمعرض، وسحباً لجمهورٍ يتحرّك عادة خارج قاعات عرض الكتب. وأيضاً؛ صناعة نوع من التفاعل والمزج ما بين حقول فنية وإعلامية متعدّدة، بما يجعل مناسبة معرض الكتاب فعالية ثقافية وإعلامية/ ترويجية، أكثر منها نشاطاً يقتصر على بيع الكتب فقط.
ما يحصل مع هذه الفعاليات هو مزجٌ لأنواع متعدّدة من "الجماهير" أو الزبائن، وليس استحواذاً على جمهور القراءة المعتاد، وسحبه بعيداً عن الكتاب باتجاه فعالياتٍ فنيةٍ أو ثقافية "خفيفة" كما علّق بعض المعترضين. وفي واقعٍ صارت فيه مواقع التواصل الاجتماعي هي المساحة الأبرز للمجال العام، فإن النشاطات الثقافية التقليدية صارت ملزمةً بالتجاوب مع هذا النوع من المجال العام الافتراضي، والتشابك معه وتبادل الفوائد والمنافع، خصوصاً الإعلامية منها.
يمثل برنامج "الدحيح" الذي يُعرض حصراً على حساب خاص في "يوتيوب" أبرز مثال على صيغة "Editor" أو المحرّر التي أفرزها عالم ما بعد الحداثة، بالمقابل من صيغة المثقف التقليدية الذي تتحدّد وظيفته واختلافه عن متداولي المعرفة الآخرين، بحسب جيل دولوز، بأنّه (المثقف) صانع للمفاهيم، أي أنّ لديه قدرة على التعريف، وحصر الظواهر الخطابية أو الواقعية في تسميات ومصطلحات.
المثقف بهذه المحدّدات هو منتج للمعرفة، أما "المحرّر" فهو الشخص الذي يعيد تقديم المعرفة، بطريقةٍ، ربما أكثر إثارة للانتباه من السياقات الرتيبة والجامدة التي يقدّم بها المثقف المعرفة ذاتها. والمحرّر، في السياق المتحدّث عنه هنا، هو "فنان" في التقديم والإعداد، غير أنه بذاته لا يصنع معرفةً ما. وبشكل ما قد يكون مزعجاً لكثيرين؛ فإن هذا المحرّر حوّل المثقف إلى المتحف! جعله مجرّد مادة أرشيفية يجيد هذ المحرّر تقطيعها وتقديمها للجمهور العام.
لكن، هل تبقى المادة المعرفية والثقافية على حالها؟ إنّنا نرى ونشاهد عشرات "المحرّرين" على موقع يوتيوب، يقدّمون برامج وثائقية، ثقافية تاريخية أو معلومات طريفة وأخباراً غريبة، وغير ذلك من مواد يختلط فيها الحقيقي بالشائعات والمزيّف والمختلق، والاعتماد على مصادر غير موثوق بها، أو تجييراً للتاريخ لصالح وجهة نظر سياسية أو دينية مسبقة. بما يجعل هذه المواد الإعلامية ليست أكثر من صدى لأصوات شعبوية موجودة في المجتمع، لا إضافة "نخبوية" فيها. وليس فيها بعد تثقيفي حقيقي.
سمة "الاستهلاك" التي تطبع عصر ما بعد الحداثة، تدفع إلى التبسيط، فهذا ما يضمن زيادة مساحة المستهلكين، وها هنا قد يحذف "اليوتيوبر" الأشياء العميقة والمركّبة من أفكار المثقفين، لجعل ما يقدّمونه سهل الهضم لقطاع كبير من المتابعين. أو أنّهم مسبقاً يستبعدون تلك النتاجات والأعمال المعقدّة بطبيعتها، فيساهمون بهذه الطريقة بإعادة توجيه الجمهور العام نحو أفكار محددّة بعينها.
هناك من يرى هذه النشاطات نوعاً من ردم الهوّة ما بين جمهور القراءة التقليدي وذلك الجمهور البعيد، وسحبه ليزداد فضوله تجاه المعرفة، فتكون المواد المعروضة على "يوتيوب" أشبه بالملخّصات التي قد تدفع مهتماً ما إلى الاستزادة منها من خلال القراءة في الكتب.
في كلّ الأحوال؛ يتمثل التحدّي الأكبر في القناعة السهلة والكسولة التي قد تترسّخ عند المؤسّسات الثقافية بفعل الاعتياد والتكرار؛ بأنّ ما يقوم به "اليوتيوبرية" هو مستقبل الثقافة، وأنّ "المحرّر" على وفق التعريف المقدّم في هذه المقالة، هو "مثقفنا" الجديد. وأنّ من الأفضل الاستثمار أكثر في هذه المنطقة، بدل تنشيط السياقات التقليدية وتطويرها لتقديم الثقافة وتقديم المثقف للجمهور العام.