محمود عباس فكرة ونموذجا
كان من الممكن أن يكون الخبر عاديًا، لو أن اللقاء كان بين محمود عباس، رئيس سلطة رام الله، مع وزير الخارجية الصهيوني، أو حتى مع وزير الداخلية، أو رئيس جهاز الشاباك المختص بالأمن العام. لكن الخبر يقول إن وزير الدفاع الصهيوني، بني غانتس، التقى أبو مازن، قبل أن يتوجه الأخير إلى مصر، لحضور قمةٍ ثلاثيةٍ جمعته مع السيسي وملك الأردن، في حب بايدن وعملية السلام.
قبل ذلك، وفي مطلع العام 2018 أعلن عباس أن لقاءً شهريًا يجمعه برئيس جهاز الشاباك الإسرائيلي، معبرًا عن افتخاره بأن التنسيق الأمني بينه وبين جهاز الأمن العام للاحتلال ناجح بنسبة 99%.
ليس في ذلك مفاجأة، فالرجل يحيا وفق معادلة: أنا أنسّق أمنيًا، إذن أنا موجود، فضلًا عن أنه كان يكشف ذلك السر، الذي ليس بسر، في سياق شكواه الملتاعة من رفض رئيس حكومة الاحتلال في ذلك الوقت، بنيامين نتنياهو، مقابلته. والآن، ذهب نتنياهو، وجاء نفتالي بينت رئيسًا يمينيًا متطرّفًا لحكومة الاحتلال، من دون جديد، فهو مثل سابقه لا يعير المنسق الأمني القاطن رام الله اهتمامًا، ولا يبدي أي استعداد لمقابلته، فلا يجد أبو مازن ما يطفئ به نار الشوق للقاءات سوى المثول أمام وزير الحرب الصهيوني، الباحث عن متعاونين لتنفيذ مشروعه الوحيد، وهو الحشد ضد إيران، بهدف إجبار الإدارة الأميركية الجديدة على عدم العودة إلى الاتفاق الخاص ببرنامج طهران النووي.
اللقاء انعقد قبل ذهاب عباس لاجتماع السيسي وعاهل الأردن، ما يرجّح أنه في هذه الوضعية ينتقل من وظيفة المنسق الأمني إلى وظيفة المبعوث الحامل رسائل وزير الحرب الصهيوني الخاصة بترتيب الحلف "الصهيوعربي" ضد إيران، فيما كان رئيس حكومة الاحتلال يجلس مع الرئيس الأميركي، جو بايدن، للبحث في الملف ذاته بواشنطن.
لا يكتفي محمود عباس، بمهمة التنسيق مع أجهزة أمن الاحتلال ضد المقاومين الفلسطينيين، ولا يقف عند البكاء على سقوط جنود وقناصة صهاينة.
يوسّع أبو مازن نشاطه، ويقدّم خدماته إلى وزير الحرب الصهيوني، وسط سعادة بالغة في الأوساط العسكرية والسياسية الإسرائيلية، يعبر عنها رئيس الدائرة الأمنيّة/ السياسيّة في وزارة الحرب الإسرائيليّة، الجنرال المُتقاعد عاموس جلعاد وهو يعلق على لقاء (عباس - غانتس) بالقول إن"السلطة الفلسطينية هي جزءٌ من المنظومة الأمنية الإسرائيلية"، واصفًا التعاون بين السلطة وإسرائيل على مدار السنوات الماضية بأنه كنز استراتيجي، لما تقدمه هذه السلطة من خدمات لإسرائيل، تحتم على الأخيرة على العمل على منع انهيارها اقتصاديًا.
في القاهرة، كان عباس ذو الستة وثمانين عامًا، الذي يفترض أنه رئيس سلطة تمثل حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) يبدو مفعمًا بالطاقة والحيوية وهو يظهر العين الحمراء لحركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس)، محذرًا إياها في لقائه إعلاميين مصريين، من عدم الاعتراف بالشرعية الدولية، وإلا فسوف يبقى مشروع المصالحة الوطنية متوقفًا، كما هو، ولا تفاوض لتشكيل حكومة وحدة وطنية معها، فيما تختلف اللهجة وترق نبرة الصوت وهو يجيب عن سؤال بشأن لقائه ووزير الحرب الصهيوني، الذي انتهى بوعد بحزمة مساعدات اقتصادية ومالية إسرائيلية لسلطة رام الله.
محمود عباس يدرك تمامًا أن حياته في الالتزام التام والولاء الكامل لعقيدة التنسيق الأمني مع الاحتلال، ضد كل ما يهدد أمان ووجود هذا المحتل، ويعرف جيدًا أنه مهما تجهمت إسرائيل في وجهه، فإنها لن تستغني عنه بسهولة، ولن تسمح بزواله، بالهمة ذاتها التي تحارب بها كي لا يزول احتلالها للأراضي الفلسطينية.
الشاهد أن عباس فكرة وعقيدة راسخة لدى المحتل، قبل أن يكون شخصًا متيمًا بالتسلط على شعبه، ولذلك لن تقبل إسرائيل أن يموت عباس، الفكرة والنموذج.