مدى جدّية الخلاف الأميركي الإسرائيلي
يواجه الرئيس الأميركي جو بايدن ضغوطاً شعبية وحزبية لتغيير موقفه من الحرب على غزّة، فمنذ لحظة 7 أكتوبر، وقف بحزم وراء إسرائيل ودعمها في السياسة والتسليح والمساندة المعنوية، ورفض فكرة وقف إطلاق النار، وتصدّى في سبيل ذلك لثلاث محاولات لتمرير قرار في مجلس الأمن لوقف الحرب، حيث لجأت إدارة بايدن من دون تردّد إلى سلاح "الفيتو"، لكن إطالة مدّة الحرب وفداحة الدمار الهائل وشلال الصور المؤلمة القادمة من غزّة جعلت شريحة مهمة من المجتمع الأميركي، وخصوصاً من الشباب، تتخّذ موقفا مضادّا لهذه الحرب، الأمر الذي دفع الموظفين الرسميين المنتخبين إلى اتخاذ موقف مشابه، ربما أبرزهم موقف زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، بتوجيه نقد مباشر إلى نتنياهو الذي اتهمه بالوقوف ضد مصلحة إسرائيل، وأصبحت العلاقة بين إدارة بايدن ونتنياهو متوتّرة، وربما ازدادت بعد أن منع شومر نتنياهو من تقديم خطابٍ إلى الديمقراطيين في غداء مغلقٍ خاص بهم.
شهدت العلاقات الأميركية الإسرائيلية مناخات كان التوتر عنوانا لها، ففي خمسينيات القرن الماضي، دخل الرئيس أيزنهاور مع ديفيد بن غوريون في اشتباك بعد الغزو الإسرائيلي لسيناء في ما عرف بالعدوان الثلاثي، كما سجل الرئيس الأميركي جيمي كارتر خلافا مع مناحيم بيغن بعد مبادرة السلام مع أنور السادات بشأن مقدار الانسحاب الإسرائيلي المتوقع من الأراضي التي احتلت عام 1967، وجرت مشاحنات لاحقة بشان الاستيطان الإسرائيلي وكان بطلاه جورج بوش الأب وبيل كلينتون مع رؤساء وزراء إسرائيل المتعاقبين، ومنهم نتنياهو نفسه، حُلّت كل تلك الخلافات أو جرى تجاوزها باعتبارها ظرفية محدودة أو أنها تباين في وجهات النظر لا تؤثر على حالة الود المستدام.
ويعتبر ما يحدُث اليوم هو "الشجار" الثالث لنتنياهو مع رؤساء الولايات المتحدة، فقد اختلف مع كلينتون بشأن المستوطنات، وأحبط سعيه الحثيث إلى محاولة التوفيق بين العرب وإسرائيل، وكان الخلاف أكثر جدّية مع أوباما وقد كانت المستوطنات جزءاً منه، ولكن المشكلة الأساسية تمحورت حول إيران التي وقّع معها أوباما اتفاقه النووي الشهير. أمضى نتنياهو شهر عسل سياسياً خلال فترة ترامب الذي كان يهاتفه حتى في أثناء جلسات التحقيق معه بشأن خلافات مالية، وانتهى شهر العسل بقدوم بايدن الذي أظهر خلافا بعد انتخابات الكنيست (نوفمبر/ تشرين الثاني 2022)، التي أفرزت جناحا وصفه بايدن نفسه بالمتطرّف، ولكن هجوم 7 أكتوبر أحدث مناخا توافقيا تبدّد بعد أشهر من القصف العنيف والانقلاب في الرأي العام الأميركي.
تعتمد إسرائيل بشكل كبير على الدعم العسكري الأميركي، فالقبة الحديدية تتألف عمليا من مكونات تكنولوجيا وصواريخ أميركية بالكامل، وحرصت الولايات المتحدة على أن تكون القبّة جاهزة وفعّالة على الدوام، وتتلقى إسرائيل طائرات عسكرية متطوّرة مثل إف 35 لا يحلم كثيرون بالحصول عليها، شارك بعضها في العدوان على غزّة، بالإضافة إلى العتاد الذي يؤمن كفاءة تشغيل للأسلحة بشكل دائم، كما تقدّم الإدارات الأميركية حماية دبلوماسية تجعل إسرائيل في منأىً عن أي عقوبة أو فرض قرار لا يعجبها، مثل منع قرار وقف إطلاق النار على مدى أشهر الحرب في غزّة. وهناك مبلغ مالي كبير يتجاوز ثلاثة مليارات ونصف مليار دولار تتلقّاه إسرائيل على شكل مساعدات نقدية وعينية مختلفة. ولكن: هل يمكن تجنيد كل هذا الدعم لصالح موقف بايدن الذي يريد الآن أن يوقف إطلاق النار بشكل مؤقّت في غزّة؟ من غير المؤكّد أن ينجح بايدن، فإرادة الحرب الآن إرادة شعبية إسرائيلية شبه عامة، ويمكن لها أن تقف بعناد في وجه بايدن الذي يترنّح بالفعل مع الوقت، وهو يحاول خوض انتخابات لتجديد رئاسته، ليضاف الخلاف الحالي إلى قائمة المشادّات التي تحصل بين البلدين، ولا تؤدّي إلى قطيعة أو انفصام لعرى التقارب.