مرجعيات السلوك البشري

20 سبتمبر 2024

(محمد عمران)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

ذكر الطبيب النفسي نبيل القط (أحد أشهر الأطباء النفسيين في مصر حالياً)، في محاضرة له أنّه يجب "التفريق بين المرض النفسي والاضطراب النفسي، ذلك أنّ البشر عموماً مصابون باضطرابات نفسية"، تحدث بسبب الولادة والفطام لاحقاً، ثمَ أثر البيئة والعلاقة مع العائلة، الأمّ والأب، على وجه الخصوص، وهذه اضطراباتٌ يمكن لأيّ فرد أن يتعايش معها بشكل طبيعي من دون أن تُشكّل عائقاً أمام مسيرة حياته، ويمكن لبعضهم مواجهتها ومحاولة الشفاء منها، سواء بمساعدة ذاتية تستلزم جهداً حثيثاً لمواجهتها أو عبر الانخراط في تجمّعات تقدّم دعماً نفسياً جمعياً، عادةً ما يستخدم فيه نوع من أنواع الإبداع البشري كالكتابة والفنون. أمّا المرض النفسي فهو ذلك الذي يمنع صاحبه من عيش حياته الطبيعية، أو يجعل من وجوده عبئاً أو خطراً على المحيطين به، وهذا لا يستطيع صاحبه معه الاكتفاء بالجهد الذاتي للمعالجة، بل يحتاج تدخّلاً طبّياً يمتزج فيه الدواء مع العلاج النفسي المتخصّص. وللأسف "فإنّ المرضى النفسيين عموماً لا يدركون أنّهم كذلك ما يُصعّب عملية علاجهم، ما لم يكن المرض يجعل الشخص عاجزاً عن اتخاذ أيّ قرار فردي أو ذاتي"؛ بينما هنالك أمراض نفسية مشخّصة يعيش أصحابها حياتهم اليومية من دون أيّ إدراك واعٍ لما يسببونه للمحيطين بهم من أزمات وتغيّرات وانقلابات في سلوكهم اليومي.

من أغرب الأمراض التي تحدّث عنها القطّ مرض اضطراب الوهام المشترك، وهو حالة متقدّمة من الاضطرابات النفسية التي تنتقل من شخص إلى آخرين محيطين به، كما لو أنّ هذا الاضطراب هو عدوى فيروسية تنتقل من شخص لآخرين يحتكّون به يومياً. وهو ما جعلني أبحث عن مقالات عن هذا الاضطراب لأعرف عنه أكثر، ووجدت معلوماتٍ مذهلةً لغرابتها أولاً، ولأنّها قد تحدث مع أيّ منّا من دون أن ندرك ما الذي أصابنا فجأةً وغيّرنا.

إحدى الحالات التي قرأت عنها كانت حالة عائلةٍ لجأت الوالدة/ الزوجة فيها إلى معالجٍ نفسي ليساعدها في فهم سلوك زوجها وبناتها، الذين تغيّرت معاملتهم معها منذ مدّة، إذ يتّهمها الزوج بأنّها وأسرتها يسرقونه ويكرهونه وأنّهم يطمعون به، والغريب كما تقول الزوجة أنّ بناتها منه اعتمدوا السلوك نفسه، باتوا فجأة يكرهون والدتهن وأخوالهن وجدّتهن وجدّهن لأمّهن، وأنّها أصيبت بوباء كورونا ودخلت المستشفى، وخلال ذلك كانت بناتها وزوجها يتمنون لها الموت لأنّها سيئةٌ وشرّيرةٌ كما يعتقدون. وبعد تتّبع حالتها، اكتشف الطبيب المعالج أنّ أفراد العائلة تعرّفوا قبل كورونا إلى عائلة تسكن بالقرب منهم، لاحظوا أنّها عائلةٌ وحيدةٌ لا يزورها أحدٌ، وللعائلة بنات بعمر بنات العائلة الأولى، وهو ما سهّل عملية التواصل. تقول الزوجة إنّ أحوال زوجها وبناتها تغيّرت منذ تعرفّهم إلى تلك العائلة، وأخبرت معالجها بتفاصيلَ مدهشةٍ كيف أنّ تلك العائلة تفترض سوء النيّة بجميع البشر، وكيف أنّ حديثاً بسيطاً، فرضاً عن شراء فستان لإحدى البنات، يمكنه أنّ يتحوّل محاضرةً يقودها الأب في العائلة الثانية حول سلوك البنت التي سترتدي فستاناً غالياً. تقول الزوجة إنّ تلك العائلة تمكّنت من وضع مصيدة حول الزوج (الطيب وذي الشخصية الضعيفة)، وحول البنات الصغيرات في السنّ، بينما لم تتمكّن تلك العائلة من جذب الزوجة (ذات الشخصية القوية وصاحبة الملك في البيت).

يتحدّث تقرير الطبيب المعالج عن أنّ المرض النفسي الأساس مصاب به ربّ الأسرة الثانية، وتمكّن من نقله إلى عائلته، التي نقلته بدورها إلى أسرة الزوجة، التي طلبت مساعدةً نفسيةً. ويقول إنّ انتقال هذا المرض يحتاج إلى شخصياتٍ ضعيفةٍ لديها إحساس ما بالنقص تجاه آخرين، قد يكون مادّياً أو علمياً أو طبقياً، وهو ما جعل الزوجة تنجو من براثن هذه العدوى الغريبة التي قد نصاب بها جميعاً من دون أن ندرك ذلك، فكم من مرّة صاحبنا أصدقاءَ جُدّداً، ثمّ تحوّلنا فجأةً أشخاصاً نمّامين وشكّاكين من دون أن نعي أنّهم مصابون بـ"بارانويا" نقلوها إلينا في لحظات ضعف نفسي وانعدام ثقة أصابتنا؟

عالَم الطبّ النفسي واسع وممتلئ بتفاصيلَ مذهلةٍ لفرط تطابقها مع سلوكيات نقوم بها من دون أن نعي مرجعياتها.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.