مسار الدولة ومصيرها
عند المفاضلة بين "الدولة"، مهما قيل في نقائصها وتردّدها في أن تكون دولةً عصريّة بحقّ، ودولة مواطنة بحقّ، و"اللادولة"، أي بلوغ حال تتفكّك فيه الدولة، وتتلاشى لينشأ فراغ تشغله القبائل والعشائر والطوائف وأئمّة المذاهب والمليشيات، فعلينا أن ننحاز إلى وجود الدولة، بصفتها، رغم كلّ ما يعتريها من مثالب، خطوةً مهمّةً إلى الأمام مقارنة بما قبلها.
لا يُعالج ضُعف الدولة أو عجزها أو استبدادُها بتحطيم ما أقامته من مؤسّسات، ومصادرة دورها الوطني الشامل المفترض، وإنّما بالعمل على النهوض بالمجتمع المدني، ليكون رقيباً وشريكاً. ويتعيّن ألّا نُفتن بالشعارات البرّاقة التي تُسوّق بدائل الدولة، بحجّة أنّ الدولة استبدادية، وننساق إلى الوهم بأنّ الكيانات التقليدية الموازية، أو التي تُريد أن تجعل من نفسها بديلًا للدولة، هي أكثر تعبيرًا عن هموم المواطنين وتطلّعاتهم، لأنّ هذه الكيانات ردّةٌ إلى الوراء، وتحطيم للمنجز المؤسّساتي الذي تمّ، مهما كانت ضآلته وهشاشته، فالمطلوب هو توسيع هذا الطابع المؤسّساتي وترسيخه وتقويته، لا الارتداد عنه، ففي الظروف الملموسة اليوم، عربيّاً، لن يكون بديل الدولة سوى العصبيات التقليدية التي أنشئت الدولة لتجاوزها: القبيلة، الطائفة، العشيرة وغيرها.
لا يجوز، في أيّ حال، أن يُفهم من هذا القول أنّه تبرير للدولة في المطلق، أو دفاعٌ عن استبدادها، فنحن ننطلق من الوعي بالحاجة إلى قهر هذا الاستبداد ببناء المؤسّسات المدنيّة القادرة على كسره، بفرض نهج سياسي يحترم التعدّدية، ويضمن المواطنة المتساوية، وهو أمر يلزمه عمل طويل ودؤوب.
لم تكن الحروب الأهليّة في كثير من بلداننا العربية التي شهدناها في القرن الماضي وبدايات هذا القرن قد اندلعت بعد، حين وضع عبدالله العروي كتابه المُهمّ عن "مفهوم الدولة" (1981)، لكنّه امتلك قدرة استشرافية تحذّر من المآلات المدمّرة للكيانات الوطنية، إن لم يجر النظر بصورة تاريخانية إلى الدولة بوصفها سيرورة باتجاه عقلنة المجتمع.
في ذلك الوقت المبكر، لم ينفِ العروي عن الدولة القُطرية العربية أوجهاً كثيرة من عدم عقلانيتها، ومن قصور القائمين عليها، لكنّه أكّد أنّ هذه الدولة محمولة، أو مضطرّة حتى لو لم ترد، على أن تسير في اتجاه العقلنة، حتى وإن فعلت ذلك بتردّد، وبخطىً وئيدة.
وفي واحدٍ من أهمّ كتبه، وهو "تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القُطريّة" (1994)، رأى محمد جابر الأنصاري أنّ بناء الدولة الوطنية (القُطرية) العربية وتحصينها وترسيخها هي المهمّة الأساس قبل الهروب إلى الأمام بتبنّي مشاريع وحدويّة لم تنضج ظروفها الموضوعيّة بعد، وأثبتت التجربة أنّها آلت إلى الإخفاق المريع، لإغفالها تلك الظروف.
وفق هذا الفهم، يمكن القول إنّ الأنصاري كان، هو الآخر، يُحذّر من المآلات الصعبة التي انتهت إليها الدولة القُطرية العربيّة في أكثر من مكان، التي رأى مقدّماتها، داعيًا إلى تفادي الأسوأ، الذي حصل للأسف، عندما أزيحت الدولة الوطنية في أكثر من بلد، العراق والسودان وليبيا وغيرها، عن الدور الموكول إليها وحدها، وفق العلوم السياسية، وهو احتكار القوة لضبط نزاعات المجتمع.
هناك استدراكان لا بدّ من ذكرهما: يتصل الأول بدور القوى الخارجية في الدفع بهذا السيناريو البغيض. انهارت الدولة العراقية تحت ضغط الاحتلال الأميركي، الذي كانت أول خطوة وأخطرها أقدم عليها الحاكم العسكري الأميركي بول برايمر هي حلّ الجيش العراقي، ليليه تفكيك مؤسّسات الدولة الأخرى. وانهارت ليبيا كيانًا موحّدًا تحت ضغط التدخّل العسكري لحلف الناتو، وسيناريوهات مشابهة جرت في بلدان أخرى بسبب تدخّل القوى الإقليمية.
وفي تعقيبٍ له على كتاب الأنصاري، نبّه الباحث يوسف الحسن إلى مجموعة من النقاط المهمّة، بينها ضرورة الوقوف على دور القوى الخارجية في إفشال مساعي بناء الدولة الوطنيّة العربيّة، وهذا صحيح، ليس فقط عبر اتفاقية سايكس – بيكو سيئة الصيت وحدها، وإنما من سياق تعاطي الغرب مع مشاريع بناء هذه الدولة، ومن ذلك، ما تعرّضت له تجربة محمد علي باشا والتجربة الناصرية في مصر من استهدافاتٍ لإجهاضهما، وغير ذلك من صور التدخّل الخارجي في أماكن أخرى.
ويتصل الاستدراك الثاني بمسؤولية الدولة العربية نفسها عن تصدّعها. كانت هذه الدولة بدورها رغم تشكّلها ناقصة، وأخفقت في تأمين ما يلزمها من شرعيّة القانون. في النتيجة، عادت بعض بلداننا إلى حال اللادولة، أو ما يشبه تلك الحال.