مسلْسلات رمضان مؤنّثة وتقاوم الاختصار
هذه السنة، دخل الوقت على مسلسلات رمضان؛ الخمس عشرة حلقة بدل الثلاثين. ليست هذه أول مرة. في رمضان العام الماضي، كان "بطلوع الروح" الناجح، الذي خطف الأنفاس من أولى لحظاته. هذه السنة، انتظرتُ مثله، أملاً بأن أستعيد السقف العالي الذي رسمته مخرجته كاملة أبو ذكري، وبطلته منّة شلبي. وكان الإغراء كبيراً. اخترتُ ثلاثة مسلسلات، من عيار الخمس عشرة حلقة. واستبعدتُ أخرى، ذات الثلاثين، أملاً بأن أربح الوقت، ولا أخرج من المسلْسل بشعور أنني هدرته. فوقعتُ على: "تغيير جو"، "الهرشة السابعة"، و"تحت الوصاية". وباستثناء الأخير، ببطولة منى زكي، فشل الأولان في تحقيق الغرض من الاختصار.
ماذا تريد مسلسلات الخمس عشرة حلقة؟ ماذا تقصد؟ تريد أن توفر وقتاً على المشاهد، اشتهرت ذات الثلاثين حلقة بهدره، عبر ما عُرف بـ"المطّ". كأن يسترجع البطل، يتذكّر، بلوعةٍ أو بفرح، ما مرّ عليه وعلينا في الحلقات السابقة، أو لتشرُد الكاميرا في مشهد، ولدقائق، في بطل، أو حتى كومبارس، بلعبةٍ يمسكها بيديه، أو طاولة مأكولات، أو شجرة، أو باقة ورد ... أو يستطرد المخرج بتفرّعات درامية جديدة، لا علاقة لها بالحبكة الأساسية، يقدّمها بصفتها "تأملا"، وهي في الواقع ملَل مطوّل، استغراقٌ في الملَل، يتكبّدهما المشاهد، ويحاول تجاوزه بالصبر، أو بتناول الحلوى.
لم يخرج "الهرْشة السابعة" و"تغيير جو" عن هذه القاعدة القديمة، رغم صفة "الخمس عشرة". حشرا فيه ما يناسب الثلاثين، باستغراقهما في "تأملاتٍ" بلا فائدة درامية؛ وبإطلاقهما المواعظ غير الدينية المحفوظة، وبإسهابهما في مصير الشخصيات الثانوية، والتي تنقطع قصتهم في نهاية المسلسل، بما يشبه المِقَصّ. فكان تساؤلي: كيف يمكن لمخرجةٍ، مريم أبو عوف، هي، في الوقت نفسه، من أدار مسلسل "ليه لأ"، الناجح، المتماسك، بخمس عشرة حلقة ... أن تعود وتخرج "تغيير جو"، الفاشل، المفكّك، الثرثار، الخالي تقريباً من الحبكة، وسط حَبَكاتٍ ضئيلة، والذي يمطّ بلا رحمة، ويتنهي بالسلقْ والاختزال؟ أو مسلسل "الهرْشة السابعة"، ومؤلفته مريم نعوم، المعروفة بدورها، ما الذي حوّل مسلسلها ذا الخمس عشرة حلقة إلى نهر من التأملات الفارغة، وإلى شخصيات ثانوية لا تمتلك من صلةٍ بالحبكة المفترض أنها رئيسية، وتنتهي بـ"دروس "نفسية" عن الحب والزواج وعيون بطلته أمينة خليل، الجميلة، المحبّة، الغاضبة ... والتي تبدو هنا كأنها محفوظة من مسلسلاتٍ سابقة؟
قد يكون الوقت هو السبب. في الحلقات الثلاثين، واضح أن الجميع لا يحترم وقت الجميع. يضيّع وقته. وكانت جنة رمضان عطلة مع الوقت. ولكن الآن، يتسلّل شعور لدى الجميع بأن الوقت يدهمنا، وعلينا اختصاره إذا أردنا "اللحاق". السرعة اخترقتنا، وعجّلت من وتيرة أيامنا. فكانت الحلقات الخمس عشرة، تعِدنا، وتقول لنا إنها ستحترم وقتنا. وعندما يعلن المخرج، أو الطاقم، أنه أخذ على عاتقه حساب وقتنا، ولا يحترم هذا الالتزام، فيكون بصدد الضحك علينا أو على نفسه. ولكن النتيجة، في النهاية، أن وقتنا ضاع. كنّا نأمل عدم إصابتنا بالضجر، فاذا بنا في سفينةٍ تقودنا إليها، مع "الهرْشة السابعة" و"تغيير جو".
أثار "تحت الوصاية" الرأي العام المصري، وربما العربي. في البرلمان المصري، كان صداه قويا
ولكن أيضا: انتبهتُ عشية الشهر الكريم، وأنا أستطلع قائمة المسلسلات المصرية، التي لا أهتم لغيرها، بأنني اخترتُ عفوياً نجماتٍ نساء، أحرص دائماً على متابعة أعمالهن: منّة شلبي وأمينة خليل ومنى زكي. سعدتُ بأن الثلاثة من ذوات الخمس عشرة حلقة، فلم أسأل عن الموضوع. تُضاف إلى لائحة نجماتي المفضَّلات ريهام عبد الغفور، التي أبدعت في مسلسلين سابقين على رمضان، "وشْ وضهرْ" و"أزمة منتصف العمر". ولكني هذه السنة، لم أهتم بها، في مسلسل "رشيد"، بطولة أحمد ممدوح. وأيضا روبي، بطلة "حضرة العمدة"، هذه السنة. ولكنني، منذ المشاهد الأولى، غضضتُ النظر عنها. بدت لي متصنّعة على غير عادتها، فيما عملُها يمتد على ثلاثين حلقة. تبقى نيللي كريم، ثلاثون حلقة أيضاً، هي ليست من المفضَّلات، ولكنها نجمة. مثل يسرا وغادة عبد الرازق بالثلاثين حلقة، اللواتي لم أعد أنجذب إليهن. وأما في الأفيش الدعائي لكل هذه المسلسلات، فتكون هذه النجمات في صدارة الصورة. خلفهن، أو على جوانبهن، الأبطال الثانويون.
حسناً، وماذا عن الإخراج والتأليف؟ أيضا نساء في غالبية الحالات. منّة شلبي، بإدارة المخرجة مريم أبو عوف. أمينة خليل بنصّ المؤلفة مريم نعوم. منى زكي بنص لشيرين وخالد دياب. فيما مسلسل يسرا من تأليف محمد ذو الفقار، وغادة عبد الرازق من تأليف هبة الحسيني. لتبقى روبي ونيللي كريم تحت إدارة ونصوص رجال. وفي كل الحالات، نساء يكتُبن ويُخرجن لنساء ذوات أدوار؛ عاملة، أو تصبو إلى العمل، تُطالب بحقها، أو تعرّض نفسها، وأهلها، للمخاطر من أجله؛ تتحرّك، تقرّر، تنجح، تخسر، تسافر، تتعقد حياتها أو تتسهّل. وطبعاً العقلية الجديدة، وروح العصر، وشيء من الحرية الداخلية، تتوق إليها، أو تتمتّع بقسطٍ منها؛ قويةٍ، حيّة، مهما كانت بيئتها، شعبية أو مخْملية ... بعيدة كل البعد عن مشهد المرأة المغلوبة، المنْبطحة على الأرض، المُمْسكة بذيل بنطلون زوجها وهي باكية، وهو يصرُخ "أنت طالق. أنت طالق".
في المقابل، النجوم الرجال، إما نادرون، أو يسبحون في الاتجاه المعاكس. أحمد ممدوح من الصنف الأول. ولكن هذه السنة، أهملتُه، هو وريهام عبد الغفور، كما أشرتُ. فضلا عن نجم آخر، إياد نصّار، الذي افتقدتُ موهبته هذه السنة، في "تغيير جو". أما الصنف الثاني، السدّ العظيم، المعاكس لهذا الوجود النسائي، بمواضيعه وأشخاصه وشخصياته، فهو محمد رمضان، في "العمدة جعفر" هذه السنة؛ حيث يجدّد له مخرُجه ومؤلفه الدائم، محمد سامي، الدور الذكوري المحبّب لديه. وقصته حسب الخبر: الرجل المتزوّج من أربع نساء سعيدات به، والتي تطاول يدُه أخرياتٍ في طريقه، الذي لا يُعرف له شغلٌ غير خوض المعارك بالسلاح الأبيض، الواعظ الرحوم، الفاحش الثراء، الذي ينهض من حُطامه، وينتهي دوما بالفوز العظيم ... يعني شيئا من أحمد عبد الجواد بطل ثلاثية نجيب محفوظ، ولكن "لايت"، معاصر؛ الثراء بدل اليُسر، الزواج المتعدّد بدل العوالم، النعومة والجاذبية مع العضلات، بدل الخشونة من دونهما. ... هذه السنة، لم يتألّق نجوم آخرون، واختفى عادل إمام.
كيف يمكن لمخرجةٍ، مريم أبو عوف، هي، في الوقت نفسه، من أدار مسلسل "ليه لأ"، الناجح، المتماسك، بخمس عشرة حلقة ... أن تعود وتخرج "تغيير جو"، الفاشل، المفكّك، الثرثار، الخالي تقريباً من الحبكة؟
تحية إلى منى زكي، أخيراً: وضعتنا، عبر 15 حلقة، في حالة قلق على مصير بطلتها حنان، وفي لهاثٍ خلف الأحداث التي تحرّكها مبادرتها الشجاعة؛ بأن تهرُب من الإسكندرية بأولادها وبما ورثته من زوجها، إلى دمياط، وتقود سفينة صيدٍ في غمار البحر، وتقاوم ذكور البحر والعائلة، وتكون مشكلتها الأساسية، القانونية، أنه لا يحقّ لها، بعد وفاة زوجها، الوصاية على أولادها وعلى مال زوجها، إنما الحقّ بيد جدّهم، الذي يديره ابنه الطامع بالسفينة. وتنتهي الحلقة بسجن البطلة سنة، لأنها خالفت هذا القانون (قارن نهاية "حنان"، منى زكي، ونهاية "جعفر"، محمد رمضان).
قصة حنان هي قصة الملايين من المصريات والعربيات. هي من صميم الأحوال الشخصية، التي ما زالت حياتنا تنتظم على وقعها، بوتيرةٍ لم تعُد مطابقة للواقع. ما يحصل أن النساء لم يعدن قادراتٍ على تحمّل تبعاته الظالمة. ديناميكية جديدة في العقول والتنقل والعيش أدخلت شيئاً من الحرية في السعي وبناء الآمال والخيال، شيئا جديدا على مجمل عيشهن. ثم القدرة على الحركة والمبادرة والتمرّد على القوانين المُجحفة، غير المنسجمة مع هذا الديناميكية.
أثار "تحت الوصاية" الرأي العام المصري، وربما العربي. في البرلمان المصري، كان صداه قوياً. إحدى نائباته، إيمان الألفي، منسّقة شباب الأحزاب، تقدّمت بمشروع قانونٍ يهدف إلى تعديل بعض أحكام قانون "الولاية على المال". وصرّحت بأن غرض تشريعها المقترح "الحفاظ على أموال الصغار واستثمارها"، و"إتاحة الوصاية المالية للأم، بعد الأب مباشرة". فهل يتجاوب البرلمان المصري مع هذه المبادرة؟ أم يُميتها بواحدةٍ من ضرباته الناعمة، أو الخشِنة؟ أم يؤجّلها، لعلّ رمضان القادم يأتي بما يكشف تخاذله، أم يتذبذب، أم يتراجع؟