15 نوفمبر 2024
مصر شأناً حقوقياً
لو تجاهلت وزارة الخارجية المصرية ما قاله مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، زيد بن رعد، بشأن "مناخ التخويف السائد" في بلدها، لكان سكوتُها أنفع لصورة مصر التي تشوّهها سبع منظمات حقوقية وأهلية، أجنبية ومحلية، تدعمها وتمولها استخباراتٌ أجنبية، بحسب ما "كشف" رئيس لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب المصري، علاء عابد (!). .. كان الأجدر بالوزارة أن تترك الرد على المسؤول الرفيع في الأمم المتحدة لأنفارٍ كثيرين في الصحافات والتلفزات المصرية، من قماشة الذين جاد عليهم، أخيرا، ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بأقلّ من ساعتين من وقته، ثم كانوا في اليوم التالي أكثر سخاءً في مديح "الثورة الثقافية" التي يصنعها في بلاده، وكذا "الرؤية الثاقبة" للتطوير الشامل الذي يُحدثه في المملكة. كان في وسع هؤلاء أن يتولّوا أمر زيد بن رعد، بدل أن تهبط وزارة الخارجية المصرية العتيدة إلى اتهامه بدعم "جماعةٍ إرهابيةٍ"، عندما يُدافع عن أعضائها والمتعاطفين معها. والواضح أن توترا عصبيا ليس هيّنا وراء هذا الاتهام غير المسبوق، إذ ترميه حكومةٌ على مسؤولٍ ذي حيثيةٍ رفيعةٍ في الأمم المتحدة. ما قد يعود إلى أنه بقّ البحصة كلها، عندما ضرب على الوجع، من دون لفٍّ أو دوران، ومن دون دبلوماسيةٍ لا مدعاة لها، لمّا قال إن المصريين يتطلعون إلى العيش في بلد ديمقراطي حر وجامع.
استمع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف إلى إيجاز وزير شؤون مجلس النواب المصري، المستشار عمر مروان، تقريرًا حكوميًا عن حالة حقوق الإنسان في مصر بين 2014 و2017، جاء فيه إن تفعيلا يتم لآليات الرقابة والمساءلة بشأن تجاوزات أي شخصٍ في الشرطة على حقوق المواطنين المصريين، ومن ذلك أنه تمّت محاكمة 72 ضابطا وفردا في الشرطة المصرية في وقائع تعذيبٍ واستعمالٍ للقوة. وبحسب الوزير وتقريره، فإن "عديدين" من هؤلاء دينوا بأحكام نهائية. والواضح أن مكتب زيد بن رعد لم يشتر هذا الكلام، أو لم يجد أن السلطات المصرية تحرص على حقوق مواطنيها بالقدر الكافي. والأوضح أن المفوّض السامي التفت إلى الماثل قدّام عينيه، بشأن الأجواء الراهنة التي تسبق البيعة الجديدة، المقرّرة نهاية شهر مارس/ آذار الجاري، للرئيس عبد الفتاح السيسي، والمسمّاة انتخاباتٍ رئاسيةً، فأشار إلى "مناخ تخويفٍ" يواكبها، وتحدّث عن مرشحين محتملين تعرّضوا إلى ضغوط، في عدة طرق، منها الاعتقالات. ولم يأت الأمير الأردني بشيءٍ من عندياته، غير أن الخارجية المصرية استشعرت أنه يؤشّر إلى واقعة حبس رئيس الأركان الأسبق، سامي عنان، فقال بيانُها الذي جاءت هذه السطور عليه إن المخالفات القانونية التي تم اقترافها تم التعامل معها "وفقا لإجراءاتٍ قانونيةٍ سليمة، وفي إطارٍ من الشفافية والوضوح".
من قلة العقل أن يخوض واحدُنا جدالا مع مُزاح الخارجية المصرية هذا، فمنافسة السيسي مع موسى مصطفى موسى تنطق بما لا حاجة لقولٍ فيه. وتكفي أيضا أخبار الذين يموتون في سجون النظام، بإهمالٍ طبي أو غيره، وقد صارت أعدادهم في السنة الرابعة من عهدة السيسي الراهنة تزيد عن أربعمائة، في ما يمكن حسبانها مذبحةً مريعةً لحقوق الآدميين، يزداد الجزع من أهوالها مع الخرس الفادح الذي يرتكبه مثقفون وحقوقيون وأدباء مصريون بشأنها، وهم الذين لا يُنسى تفجّعهم على الحريات التي كانت ستضيع لو استمر محمد مرسي رئيسا أربع سنوات، ولا يُنسى ما أصاب حواشيهم من خوفٍ ثقيلٍ على حريات التعبير، لو ظل الإخوان المسلمون في الحكم. وها هم يبتلعون ألسنتهم بشأن توقيف مخرج مسرحيةٍ ومؤلفها، لما قيل إنه تجرّؤ أظهراه، في مسرحيتهما عن المجند المصري سليمان خاطر، على الجيش، والجيش هو المؤسسة الوحيدة التي لا يرى عبد الفتاح السيسي غيرَها في الدولة المتسلطة التي يقيم رئيسا فيها، يراها مصدر الأمن والسياسة، ومصدر الإنتاجية الأهم في دواليب الاقتصاد.
مصر ملفٌّ حقوقيٌّ بامتياز في عهد السيسي، كتبنا هذا مراتٍ، وهذا بيان الخارجية المصرية في الردّ على ما جهر به زيد بن رعد في منتدىً رفيع للأمم المتحدة يؤكّد هذه الحقيقة.