مصر في المكسيك
ثمّة إغواءٌ خاص لمصر، يجعلها مقصداً سياحياً مثيراً، لكثيرين في العالم، مغرمين بمعرفة البلدان البعيدة، وصحاريها ومدنها وأريافها وشواطئها. ولمصر جاذبيةٌ لدى هؤلاء، فما الذي يدفع مكسيكيين إلى أن يأتوا إلى هذا البلد، سيّاحاً وجوالين في عتاقته وظلاله وشمسه، وفي حواريه وشساعته، بل وفي جوفٍ صحراوي فيه أيضاً؟ مؤكد أن الفوج المكسيكي ابتهج بما رأى، وقد طاف ببعض مصر، قبل أن يقضي أفرادٌ منه، (ومصريون أيضاً) في واقعةٍ حمقاء اقترفتها بلاهةٌ، تستخفُّ باستخدام السلاح والمروحيات، في حادثة مؤسفةٍ ستترك أثراً سيئاً بين المكسيكيين في بلدهم، وستهزّ صورة مصر لديهم، فتصير بلداً تحكمها سلطةٌ خائفة ومرتجفة، الجيش والشرطة فيها مأذونان بالقتل بأي كيفية وبأي سلاح، إذا ما ارتابا بأي شيء. هذه من عجائب مصر الراهنة وغرائبها، ربما يقول المكسيكيون الآن. وفي أفهامهم الشائعة، مصر بلد الأهرامات والفراعنة، بلد النيل، وبلد نجيب محفوظ، والبلد الذي شارك جنودٌ منه في قتالٍ ضد ثورة وطنية في بلدهم، قبل أكثر من مائة وخمسين عاماً.
نعم، هناك في المكسيك، صاروا يعرفون نجيب محفوظ إلى حدّ كبير، ليس بسبب "نوبل"، وهو الذي ترجمت روايات كثيرة له إلى لغات عديدة، بل أيضاً لأنها وحدها السينما المكسيكية، من بين كل السينمات الأجنبية، التفتت إليه، فقد أنجز مخرجان كبيران فيها فيلميْن حققا نجاحاً كبيراً في المكسيك، وفي تظاهرات فنية غير قليلة في العالم. والحديث هنا عن فيلم "حارة المعجزات" عن رواية محفوظ "زقاق المدق"، للمخرج خورخي فونس في 1994، ونال أكبر عدد من الجوائز في تاريخ السينما المكسيكية، وأجمع أهل الدراية أنه أجمل من فيلم حسن الإمام عن الرواية نفسها المنجز في 1963. وقد أحدث المخرج تدخلاً في الرواية، ليناسب فضاء فيلمه المكسيكي الذي أجادت سلمى الحايك دور البطولة فيه، وثمّة من كتب أنها تفوقت فيه على شادية في الفيلم المصري. شوهد "حارة المعجزات" كثيراً في المكسيك، كما سابقه (1993)، للمخرج أرتورو ريبيستين، عن رواية محفوظ "بداية ونهاية"، والذي نال جوائز مقدرة في بلاده، واعتبر، في حينه، أفضل فيلم غير إسباني ناطق بالإسبانية.
مصر بلد مركزي في الشرق، ولإسمِه مطرحُه في مدارك أهل المكسيك، شاهدوا ذينك الفيلمين المحفوظيْن أم لم يشاهدوهما. ولكنهم يقرأون أن تجريدةً عسكرية سميت "الأورطة المصرية السودانية" شاركت في مواجهة ثورةٍ وطنية في بلدهم ضد إمبراطور كان حاكماً مدعوماً من فرنسا التي نقلت تلك القوة المصرية إلى هناك في العام 1863، وعندما غادرت لاحقاً، بقي جنود مصريون منها في المكسيك، وقد قتل المرض قائدَها في تلك الأثناء. تلك حكاية ثاوية في تاريخ ناءٍ، لا نعرف مقادير ما تحوزه في ذاكرة ناس المكسيك، بشأن تاريخ بلدهم وثوراته، غير أن روائياً مصرياً مكيناً، هو محمد المنسي قنديل، فاجأنا، أخيراً، بأن روايته الجديدة (كتيبة سوداء، دار الشروق، 2015) ذهبت إلى المكسيك، فجعل هذا البلد أرض سرده في عمله الروائي هذا عن تلك القوة العسكرية المصرية التي حاربت مع الجيش الفرنسي هناك. وكانت الروائية سلوى بكر قد سبقته، في الانتباه إلى تلك الحادثة التاريخية المهملة، في روايتها "كوكو سودان كباشي" (2005) التي كان أبطالها جنوداً سودانيين ومصريين حاربوا في المكسيك.
سيُبحلق أهل المكسيك، الآن، في دماء مواطنيهم الثمانية التي ساحت في بطحاءَ مصرية، لمّا أرادوا فيها معرفة واكتشافاً، سيسألون بأي ذنب قتل هؤلاء، وأي خطأ هذا الذي يتم فيه استرخاص حياة البشر إلى هذه المقادير، وباستخدام المروحيات والقذائف، ولم يبدر من هؤلاء الضيوف ما يسوغ أيَّ اشتباه بهم. ربما أمكن للمعالجات الدبلوماسية أن تلملم الأمر، لكن الواقعة ستخدش ما في خيال شائع بين أهل المكسيك عن مصر الساحرة البعيدة التي قدم منها جنود، ذات يوم بعيد، إلى أرضهم، والتي أبهجتهم منها حكايةٌ من زقاق حارة فيها، سمّاها مخرج سينمائي حاذق "حارة المعجزات".