مصر وحربها مع الوثائق السرّية
هل المصريون محقّون فعلًا في التعبير عن كل هذا الخوف على سيناء، في ظلّ وضع الفلسطينيين المأساوي، بسبب الهجمات الإسرائيلية في قطاع غزّة المجاور؟ على الطريقة الدونكيشوتية، يحارب الحكم في القاهرة وثائق سرية بدأت تسرَّب ويُكشف عن مضمونها، وهو اليوم محاط بأزمات جمّة، ناهيك عن وضع البلاد المتردي اقتصاديًا، فهل يستسلم لطواحين الإدارة الأميركية أم يقاوم؟ سؤال مشروع يطرحه كل مصري اليوم في ظلّ شعور القاهرة بأن هناك سياسة غربية ممنهجة، تهدف إلى تطويقها بالأزمات، بغرض تطويعها وحثّها على قبول ما يُحضّر لها، سيما بعد اشتعال جبهة قطاع غزّة.
استأنفت إسرائيل عدوانها على قطاع غزّة الجمعة 1 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وذلك بعد هدنة دامت أيامًا، أفرج فيها عن عشرات الأسرى والمعتقلين بين طرفي الصراع. إذ رفضت إسرائيل كل الوساطات التي قدّمتها الدول المعنية في إيجاد الحلول السلمية للحرب، في مقدمتها مصر. وتتعلّق الاهتمامات المصرية الساعية إلى وقف الحرب، وفرض هدنة دائمة، بالوضع الإنساني لأهالي القطاع، لكنّها أيضًا مرتبطة بهواجس القاهرة، من أن تنفّذ إسرائيل مشروعها القديم – الجديد المرتبط بتوطين الفلسطينيين في سيناء المصرية، استعدادًا لبناء بلدٍ بديلٍ لهم عن فلسطين.
كشفت وثائق بريطانية أن "إسرائيل وضعت خطّة سرّية عام 1971، لترحيل الآلاف من فلسطينيي غزّة إلى العريش شمال سيناء". وبعد احتلال الجيش الإسرائيلي غزّة، إلى جانب الضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان السوري، في حرب حزيران 1967، أصبح القطاع مصدر إزعاج أمني لإسرائيل، وباتت مخيّمات اللاجئين مكتظة ببؤر مقاومة للاحتلال. وبحسب تقديرات البريطانيين، شملت الخطة "النقل القسري" للفلسطينيين إلى مصر، في محاولة لتخفيف حدّة العمليات الفدائية ضدّ الاحتلال والمشكلات الأمنية التي تواجه سلطة الاحتلال في القطاع. هذا ما كان الوضع عليه في الماضي من رؤية إسرائيلية للترحيل القسري. أما اليوم، وبعد مضيّ 52 عامًا على الخطة، اتسعت الرؤية، مع اكتشاف احتياطيات النفط والغاز في بحر غزّة، والتي قُدّرت ثروتها بمليارات الدولارات عام 2000، وبالتالي طمع إسرائيل بالسيطرة عليها. ليس هذا وحسب، بل تصرّ الرؤية الإسرائيلية على تفعيل مشروع قناة بن غوريون الواصلة بين البحرين، المتوسط والأحمر، والتي تعتبر مهمّة للممر الاقتصادي – الهندي نحو أوروبا، حيث تقدّم القناة أنها منافس لقناة السويس المصرية.
لم يبدأ الضغط الأميركي على مصر مع حرب غزة، بل كان من قبل، إذ دخلت أميركا بعقوباتها على القاهرة من بوابة التعاون الروسي المصري
أكثر من سببٍ يدفع الرئاسة المصرية إلى رفض "الترانسفير" القسري للشعب الفلسطيني، سيما أن الوثائق لم تعد سرّية، ولم تعد حبرًا على ورق، بل أعيد إحياؤها مع إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في ما خصّ "صفقة القرن". واليوم تعمل إدارة جو بايدن، بالتنسيق التام مع حكومة نتنياهو، للدفع بالغزّيين بالدم والنار، من شمال غزّة إلى جنوبها، وبعد ذلك إلى سيناء.
لم يبدأ الضغط الأميركي على مصر مع حرب غزّة، بل كان من قبل، إذ دخلت أميركا بعقوباتها على القاهرة من بوابة التعاون الروسي المصري. فيبدو أن الولايات المتحدة لم تهضم تلك الصفقة السرّية التي تراجعت عنها مصر، عندما كشفت صحيفة الواشنطن بوست، نقلًا عن وثيقة "سرّية أميركية مسربة"، أن مصر خطّطت سرًا لتزويد روسيا بعشرات آلاف الصواريخ. والوثيقة وفقًا للصحيفة، واحدة من عشرات الوثائق السرّية التي جرى تسريبها في سبتمبر/ أيلول الماضي، وهي تصنّف محادثات مزعومة بين الرئيس عبد الفتاح السيسي وكبار المسؤولين العسكريين المصريين، وتشير إلى خطط لتزويد روسيا بالقذائف المدفعية والبارود.
هي حرب الوثائق السرّية على القاهرة، إذ اعتمدت الولايات المتحدة تضييق الخناق على مصر بغرض تطويعها بما يتناسب مع سياساتها في المنطقة لاحتواء النفوذ الروسي فيها، فمنذ قرار الرئيس السابق جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس عام 1956، ولم تزل واشنطن تمارس سياسة إرهاب الدولة عليها من خلال الضغط على المؤسسات الدولية، لحرمانها من القروض أو الحصول على الدعم المطلوب.
تستغلّ الولايات المتحدة جميع الفرص المتاحة أمامها لتشكيل قوة ضغط إضافية على مصر، ولهذا عرفت الإدارة الأميركية كيف تُمسك القاهرة في اليد الموجعة، وهو مشروع سدّ النهضة الإثيوبي. إذ أظهرت الخارجية الأميركية نفسها أنها المنقذ الرئيسي لمصر من "العطش"، من خلال قوة نفوذها على حكومة إثيوبيا. لهذا عملت واشنطن لدعم حل دبلوماسي بشأن سدّ النهضة الإثيوبي، بشكلٍ يحمي احتياجات مصر المائية، ويدعم مصالح كل الأطراف.
أمام حرب الوثائق عليها، تجد القاهرة أن التقارب مع روسيا والصين كفيلٌ بتحريرها من الضغوط الأميركية والإسرائيلية
كما تدرك الولايات المتحدة كيف تدير الصراع مع مصر من خلال تطويقها من سيناء إلى السودان، حيث الحرب الأهلية الدائرة فيها تؤثّر على حدود مصر، فلاندلاع الحرب في السودان تبعات اقتصادية سلبية على اقتصادات المنطقة، وكذا المؤسّسات المالية والبنوك متعدّدة الأطراف المنكشفة عليها، فإن استمرار الحرب هناك بدعم أميركي لطرفي النزاع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع يقوّض الجهود الرامية إلى إحلال السلام في الخرطوم، وهذا هو المطلوب حاليًا.
زنار من النار والفوضى يحيط القاهرة، ويهدّد أمنها القومي، وما زاد من عمليات الضغط استهداف الحوثيين في اليمن ناقلات نفطية وتجارية إسرائيلية أو مملوكة من رجال أعمال إسرائيليين، أو حتى فيها مساهمون إسرائيليون، الأمر الذي دفع شركات شحن بحري كثيرة، منها "زيم" في 29 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) إلى تحويل مسار سفنها عن قناة السويس المصرية، بدعوى الأوضاع في بحر العرب والبحر الأحمر.
لا تُحسد مصر اليوم على موقفها المقاوم المشاريع الغربية والإسرائيلية التي بدأت العمل على تنفيذها، وما كشفته صحيفة "يسرائيل هيوم"، عن وثيقة سرّية تكشف أن وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون درمر يعكف على إعداد خطّة طلبها منه نتنياهو، تهدف إلى تقليص عدد المواطنين الفلسطينيين في غزّة، ونقل كثيرين منهم إلى سيناء، تُعتبر التحدّي الأكبر للحكومة المصرية وسط إصرار دولي على تحقيقها.
أمام حرب الوثائق عليها، تجد القاهرة أن التقارب مع روسيا والصين كفيلٌ بتحريرها من الضغوط الأميركية والإسرائيلية، لأنه الحلف الوحيد القادر على "خربطة" الوثائق السرّية وعرقلة تحقيقها، سيما أنهما لا تزالان تصرّان على مبدأ حلّ الدولتين. ويتطابق هذا الإصرار مع ما صدر من بيان القمّة العربية الإسلامية في الرياض في الشهر الماضي (نوفمبر)، فهل تتمكن القاهرة إذًا من مقاومة الوثائق السرّية؟