مطلوب مساواة الضحيّة بالجلّاد
قدّر موقع ميدل إيست آي البريطاني أنّ ملايين الناخبين البريطانيين توجّهوا إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات العامّة "مسترشدين بالغضب من الحرب على غزّة"، مُرجّحاً أن تكون الحرب الإسرائيلية على القطاع عاملاً رئيساً في تحديد خياراتهم التصويتية. لا يقتصر هذا الغضب من الحرب على حزب المحافظين الحاكم، بل يمتدّ كذلك إلى حزب العمّال الذي اتخذ زعيمُه كير ستارمر مواقفَ مُخزيةً بشأن حرب الإبادة الإسرائيلية، رافضاً وقف إطلاق النار لأشهر عدّة، قبل أن يطالب به مُتأخّراً جدّاً.
في المقابل، قلّل بعضهم من تأثير الشأن الفلسطيني في الانتخابات، مُؤكّدين أنّ القضايا المعيشية تلعب الدور الأساسي والحاسم، خاصّة مع الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها البريطانيون منذ سنوات، والتي وصفت بأنّها الأسوأ منذ 40 عاماً، مع انكماش الاقتصاد، وارتفاع كلفة المعيشة الذي انعكس في أسعار السلع والخدمات، وتدنِّي الأجور، وتوحّش التضخّم الذي فاقم الأزمات الاجتماعية وحتّى الصحّية، وقلّص بعنفٍ القدرة الشرائية والاستهلاكية للمواطنين من المنتمين إلى الطبقة الوسطى، ودفع الملايين إلى الاقتراض بأسعار فائدة عالية، بسبب ارتفاع معدّلات التضخّم، لتغطية نفقاتهم واحتياجاتهم الأساسية من مسكن ومأكل، ثم عجزوا عن دفع أقساط القروض في النهاية، ما أثار مخاوف من "انفجار قنبلة القروض".
كما أشار هؤلاء إلى أنّ الحرب على غزّة ربما تحتلّ المرتبة الثانية أو الثالثة من اهتمامات الناخبين، وذلك في إطار نفيهم أن تكون مثل هذه الموضوعات المتعلّقة بالسياسة الخارجية ذات أولوية. لكن، فات هؤلاء أن يقارنوا بين ترتيب أهمّية القضية الفلسطينية في هذه الانتخابات، وترتيبها في أيّ انتخابات بريطانية سابقة، فحتّى لو احتلّت المرتبة الثانية أو الثالثة، أو حتّى الرابعة، فهو تقدّم هائل مقارنةً بأولويات الناخبين البريطانيين طوال العقود الماضية، إذ لم تكن القضيةُ مدرجةً أصلاً في جدول الأعمال والاهتمامات. أمّا عن تصدّر القضايا المعيشية والأزمات الاقتصادية فهو أمر طبيعي في جميع الدول. وبالتالي لا أحد يطمح لأن تكون القضية في المركز الأول على أيّ حال.
تحرّكات إيجابية في المملكة المتحدة في صالح القضية الفلسطينية، كلّ ما تطمح إليه هو تحقيق بعض العدالة وإحداث تعديل جزئي في الموازين المختلّة
في ما يتعلّق بالشأن البريطاني أيضاً، وجدنا تحرّكات إيجابية في صالح القضية الفلسطينية، كلّ ما تطمح إليه هو تحقيق بعض العدالة وإحداث تعديل جزئي في الموازين المختلّة، من قبيل الرسالة التي وجّهها صحافيون يعملون في شبكة بي بي سي، وتحمل هجوماً على الشبكة، واتهاماً لها بالتحيّز لصالح إسرائيل، عبر إضفاء طابعٍ إنساني على القتلى الإسرائيليين، في مُقابل تجاهل معاناة الضحايا الفلسطينيين، وتجاهل السياق التاريخي للقضية، وتبنّي معاييرَ مزدوجةٍ في التعاطي مع ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزّة، وضحايا الصراع بين روسيا وأوكرانيا. لكنّ اللافت في الرسالة أنّها تحدّثت عن أنّ "بي بي سي" تستخدم عبارات مثل "المذبحة" و"الفظائع" عند الحديث عن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) فقط، من دون إسرائيل، "ما يُصوّر الحركة بأنّها الطرف الوحيد الذي يُحرّض ويرتكب العنف في المنطقة"، وفقاً لرسالة الصحافيين العاملين في "بي بي سي"، أي أنّ المطلوب كلّه هو تحقيق ما يسمى "التوازن"، وأن تتحدّث الشبكة عن "فظائع" في الجانبَين لا في جانب واحد فقط، وحينها سنكون أمام تقدّم في التغطية الإعلامية الغربية للأحداث في فلسطين. المطلوب حرفياً إذن أن يساووا بين الضحيّة والجلّاد.
ورغم هذا الوضع البائس، إلا أنّه إذا تحقّق "التوازن" يمكن أن يكون خطوةً أولى في طريق طويل، بدليل أنّ المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم غاضبون من هذه المساواة، ويجنّ جنونهم منها، وهو ما اتضح في ردّة فعلهم على قضايا أخرى خلال الأشهر الماضية، مثل نيّة المحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقال في حقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزّة، وذلك جنباً إلى جنب مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة، وقائد الحركة في غزّة يحيى السنوار، وقائد كتائب القسّام (الجناح العسكري للحركة) محمد الضيف. وكذلك، إضافة الأمم المتّحدة إسرائيل إلى قائمة العار المُتعلّقة بعدم احترام حقوق الأطفال في النزاعات، بالإضافة، بالطبع، إلى حركتَي حماس والجهاد الإسلامي. واللافت أنّ الغضب الإسرائيلي يستخدم عبارة "مساواة الضحيّة بالجلّاد" نفسها في سياق الردّ على هذه الإجراءات، في إشارة، بالطبع، إلى أنّهم الضحية. فإسرائيل لم تتعوّد على مساواتها بالجلّاد أصلاً طوال 76 عاماً، إذ كانت دائماً الضحية، والفلسطينيون هم الجلّادون في الإعلام الغربي، أمّا المساواة فيعتبرونها خطراً داهماً يُنذر بالمزيد، وهو ما يكشف بوضوح في أيّ عالم مُختلّ نعيش!