معاداة الساميّة: قفص الأكاديميا الغربية
عندما قرّر الفيلسوف كارل بوبر كتابة تحفته في الفلسفة السياسية "المجتمع المفتوح وأعداؤه" سنة 1939، كان قراره هذا تحت تأثير صدمة الحرب العالمية حينها. وعندما صدر الجزء الأول منه سنة 1948 كانت الحرب قد وضعت أوزارها، وانتهت على ساحات المعركة، لتبدأ على ساحة التفكير اللامنتهي: بسؤال محيّر حول العدو الحقيقي للحضارة؟ والذي خلص بوبر إلى أنه متمثل في "المجتمع الشمولي" الذي يقدم الثورة على الحضارة.
أهم ميزة في المجتمع المفتوح انفتاحه النقدي، وتمرّده الدائم على قداسة الأنماط والأشخاص، فالسعي نحو مجتمع أفضل وأكثر حرية هو سعي غير مكتمل دوماً، يقتضي اليقظة الدائمة والإيمان بعدم الاكتمال. ومن دون شك، يعدّ مجتمع الأكاديميا أهم حلقات القوة في المجتمع المفتوح، فهي مختبر حقيقي لحرية التفكير، ومقياس واضح لدرجة القرب أو البعد من المجتمعات الشمولية.
يعلم الجميع أن صورة إسرائيل بعد أحداث 7 أكتوبر، وحرب الإبادة التي شنتها على غزّة، بدأت داخل الأوساط الجامعية تشهد الكثير من التغيير، سواء عند الأوساط الطلابية، أو الأطر التدريسية. ونظراً إلى توسّع درجة التظاهر يوما بعد آخر، أخذت المسألة تفرض نفسها على اللوبي اليهودي في الأوساط الجامعية الأميركية كأزمة ومشكلة حقيقية، ودفعت أيضا المانحين داعمي إسرائيل للتدخّل والضغط. ولا يمكن لهذه الحلقة أن تكتمل في ضغطها من دون حضور الكونغرس عبر السيناتورات المؤيدين لكل ما يصدُر عن إسرائيل والمؤمنين بقداسة وجودها دينيا.
يعدّ مجتمع الأكاديميا أهم حلقات القوة في المجتمع المفتوح، فهي مختبر حقيقي لحرية التفكير، ومقياس واضح لدرجة القرب أو البعد من المجتمعات الشمولية
وقد تُرجم ذلك كله في الاستدعاء الذي كان قد وجه لكل من رئيسة جامعة بنسلفانيا، ليز ماغيل، ورئيسة جامعة هارفارد، كلودين جاي، للاستجواب من لجنة الكونغرس الأميركي. أما الورقة التي كانت وسيلة الضغط من الكونغرس فهي "معاداة السامية" وتهديد السلم والأمن اللذين يدعو إليهما المتظاهرون (بعبارة أصحاب هذا الادعاء) المساندون لحق الشعب الفلسطيني، وبعد ضغوط على السيدتين تقدّمتا باستقالتهما من منصبهما، وأدلت كل واحدة باعتذارها عما صدر منها من تصريحات.
جاءت هذه الاستقالات تحت ضغط الجالية اليهودية، وبعد موجة النقد الشديدة التي تعرّضت لها الرئيستان بعد تصريحاتهما، ثم الانتقاد الصريح للمانحين، مثلما حصل مع كلودين حينما وجه لها الملياردير المشهور بمساندته إسرائيل "بيل آكمان" في تصريح لا تخطئ العنصرية أي جهة من جهاته، عندما قال إن اختيار كلودين إنما كان بغرض تعزيز التنوع داخل المجتمع وليس لمؤهلاتها (تجدر الإشارة إلى أن كلودين من ذوي البشرة السوداء، وهي أول امرأة سوداء تترأس جامعة هارفارد).
لم تتوقف المسألة عند هذا الحد، فقد استدعت هذه اللجنة مجدّدا يوم 18 أبريل/ نيسان الجاري رئيسة جامعة كولومبيا مينوش شفيق، الأميركية ذات الأصول المصرية، بدافع الاستفسار عن الدعوة نفسها "معاداة السامية" والسماح بالتحريض على العنف داخل الحرم الجامعي، بعد اعتصام الطلبة المساند للفلسطينيين، شملت جلستها أسئلة عن التوراة ومباركة الرب من يبارك إسرائيل، وحلول اللعنة حسب عبارة السيناتور الجمهوري ريك ألين على من يفعل غير ذلك، في صيغة مكارثية مستفزّة: "هل تريدين أن تحل اللعنة على جامعة كولومبيا؟".
هجوم مخاتل تتعرّض له الحرية الأكاديمية في أميركا وغيرها من بقاع العالم الغربي، تذرّعا بحجة مغلوطة هي "معاداة السامية"
جاءت هذه المساءلة، رغم كل الانتقادات التي وجهت لشفيق من الطلبة والأساتذة، بعد أن سمحت عبر بيان صادر عن مكتب رئاسة الجامعة بتاريخ 18 أبريل 2024 (نشر بموقع الرئاسة التابع للجامعة)، للشرطة مدجّجة بأسلحتها بدخول الحرم الجامعي واعتقال ما يتجاوز مائة طالب تحت طائلة التحقيق. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل الأمر إلى تلقي رسائل عبر البريد الإلكتروني تحرّض الطلبة على عدم الانخراط في هذه الاعتصامات، تحت طائلة الحرمان من السكن وجميع المرافق الحيوية للجامعة، وهذ ما اتّخذته الجامعة فيما بعد في حقّ الطلبة الموقوفين.
وفي جامعة فاندربيلت في ناشفيل بولاية تينيستي جرى اعتقال الصحافي إيلي موتيكا مراسل موقع ناشفيل الذي كان يقوم بتغطية الاحتجاجات، إلى جانب توقيف مجموعة من الطلاب، الأمر الذي خلّف امتعاضا كبيرا من هيئة أساتذة الجامعة، والذي دفعهم إلى نشر رسالة مفتوحة لإدارة الجامعة وقع عليها ما يفوق 150 أستاذا، بشأن هذه التوقيفات التي تتنافى، حسب الرسالة، مع قيم الحرية والديمقراطية والأعراف الأكاديمية. أما في كاليفورنيا فقد شهدت مظاهرة تضامنية للطلاب مع الشعب الفلسطيني نشر كلية بومونت لما يفوق 25 مركبة من قوات مكافحة الشغب، وإزالتهم تعبيراً فنياً يرمز إلى جدار الفصل العنصري حسب تقرير "بريم تاكر" الذي نشر على موقع ذا إنترسبت الأميركي في 15 أبريل/ نيسان 2024، مشيرا أيضا إلى أنه قد جرى اعتقال 20 طالبا من المحتجين.
إن التفكير في هوية المجتمع المفتوح بعد "7 أكتوبر" لن تخلو من محاذير الخلط بين الثورة والمقاومة
ويضيف تاكر تعليقا هاما لطالبة يهودية (أماندا ديم) من الجامعة نفسها، والتي جرى إيقافها عن العمل واعتقالها، مصرّحة بأن مطالبهم الموجّهة إلى الجامعة تكمن في المطالبة بكشف استثماراتها بل وسحبها فيما يخصّ شركات تصنيع الأسلحة وجميع المؤسّسات التي تساعد على إدامة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
إذن، من الواضح أن الخيط الذي يجمع كل هذه الأحداث ليس التضامن مع الشعب الفلسطيني، أو قمع الاحتجاجات، وإنما أسلوب الهجوم المخاتل الذي تتعرّض له الحرية الأكاديمية في أميركا وغيرها من بقاع العالم الغربي، تذرّعا بحجة مغلوطة هي "معاداة السامة"، التي تشي بصفاقة مكارثية منقطعة النظير! وحسب تنبيه سابق، كان قد طرحه عزمي بشارة، فإن وسيلة الدفاع أمام هذه الحجّة غير ناجحة كما هو ظاهر للجميع، وغير ناجعة أيضا، بالأخص داخل المجتمع الأميركي، وينبغي بحسب عبارة بشارة قلب الأدوار، والانتقال من موقف الدفاع إلى الهجوم، وقلب التهمة، بالتشهير بكل من يستعملها حجّة لتبرير مجازر الإبادة الإسرائيلية.
ويمكن القول إن غزّة (والقضية الفلسطينية) قد منحت مجتمع الأكاديميا الغربية تحدّيا جديدا يكسر ادّعاء الاكتمال والنضج، ويضع الباحث والجامعة على السواء في قلب أزمات العصر، مسائلا إياه عن دوره المفترض تجاه هذا الانزلاق القيمي والأخلاقي الذي يشهده العالم اليوم. وإن يكن من شيء، فإن التفكير في هوية المجتمع المفتوح بعد "7 أكتوبر" لن تخلو من محاذير الخلط بين الثورة والمقاومة، أو بين قيم المجتمع الحرّ ومقاومة الشعوب لتكون هي أيضا جزءا من هذا المجتمع.