معرض بيروت الستينيات
تجول في معرض بيروت الستينيات الذي يُقام في المتحف العربي للفن الحديث في الدوحة (16 مارس/ آذار – 5 أغسطس/ آب)، وأنت لا تكاد تصدّق أن تلك المدينة التي احتضنت ورعت وأنتجت كل هذا الجمال والإبداع تحيا اليوم آخر خلجاتها. بل إنك لا تصدّق كيف استطاعت، بين حربين واضطرابات وسِلم هشّ مشوّش، أن تمضي في تميّزها وألقها، فتنتزع لنفسها هذه المكانة الاستثنائية التي تحوّلت، في قلوب كثيرين منّا، إلى حسرةٍ مَن قبضَ يوما على شيءٍ ثمين، ثم فجأةً ضاع منه. بيروت قبضُ ريح، يُخبرك المعرض الجميل الذي أشرف عليه سام بردويل وتيل فلراث، وهما أكاديميان وقيّمان فنّيان مستقلان، أسّسا منصّة التقييم الفني "آرت ري أوريانتد"، ومقرّها ميونخ ونيويورك، ويديران "هامبرغر بانهوف"، المتحف الوطني للفن المعاصر في برلين.
مما جاء في تقديم المعرض أنه "يُسلط الضوء على وقت شهد اضطرابًا في تطوّر الحداثة في بيروت، بدءًا من أزمة لبنان عام 1958 وانتهاءً باندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975. فهو بمثابة إجلالٍ وتكريمٍ لمشهد بيروت الفني في الستينيات، والذي ازدهر وبلغ أوجه في الإبداع والتجريب الفني وأصبح وجهة للعديد من المثقفين والفنانين من جميع أنحاء العالم العربي". وبالفعل، فإن المجموعة الفنية المعروضة، وعددها نحو 230 عملًا فنيًا و300 وثيقة أرشيفية، تم جلبها من مجموعات مقتنيات من حول العالم، تضمّ أعمالا لكل الفنانين الكبار، لبنانيين وعربا، ممن صنعوا ويصنعون مجد الفن التشكيلي محلّيا وعالميا، من أمثال شفيق عبود ورفيق شرف وإيتيل عدنان وضياء العزاوي وفاتح المدرّس وهوغيت الخوري كالان وبول غيراغوسيان وجوليانا ساروفيم وسلوى روضة شقير والإخوة بصبوص وأسادور، إلخ.
وإذ تبلغ الغرفة الأخيرة من المعرض، بعد أن تكون قد تشبّعت جمالا وإبداعا وملصقاتٍ عن معارض وغاليريهات وقصاصات صحف وشرائط مصوّرة بالأسود والأبيض ولقاءات وأنشطة فنية، و... و...، يطالعك عملٌ تركيبي جديد متعدّد الوسائط أنجزه السينمائيان جوانا حجّي توما وخليل جريج، حول انفجار 4 أغسطس/ آب 2020 الذي دمّر مرفأ بيروت بأطنانٍ من النيترات والفساد والإهمال، ومعه قلب العاصمة المكلومة بحروبٍ طويلة وأزماتٍ لا تنتهي. على شكل دائري، تًحاصرك الشاشات الصغيرة التي توثّق الدقائق الثلاث الأخيرة قبل السادسة وثماني دقائق مساء، موعد تفتّح الفطر العملاق، وانهيار المباني، وتكسّر الزجاج، وقذف الناس أمتارا في الهواء، قبل سقوطهم قتلى أو مصابين بجراحٍ لا تقدر عليها كل أنواع العلاج. هكذا، وقبل أن تنسى الحاضر، هذا إن نسيت، يأتي التجهيزُ الأخير، بمأساويته وفجائعيته، لتذكيرك بأن كل ما رأيته لتوّك قد مضى، بل إن موتا ودمارا يتهدّدانه في كل لحظة، في مدينةٍ تبدو دوما وكأنها على حافة السقوط والانقلاب.
خرجتُ من المعرض إلى ردهة الاستقبال مجدّدا، هناك حيث تستقبلك صورةٌ عملاقة لمطار بيروت القديم. هذا المطار الذي كنّا نذهب إليه صغارا، مع أبي، لأكل الآيس كريم، ولمشاهدة الطيور الرابضة العملاقة وهي تقلع، عن كثب. كنّا لسببٍ ما نسمّيه لندن، وإذ يسألني والدي في يوم العطلة المدرسية إلى أين تريدين الذهاب، كنت أصرُخ لندن يا أبي، لندن! هناك حيث المنشيات الجميلة وحلاوة الآيس الكريم التي لا تضاهيها حلاوة. والحقيقة أنا لا أدري أين يذهب اللبنانيون بكل هذا الحنين وأين يُخفونه؟ في ثيابهم، في قعر خزائنهم، تحت الأسرّة، أم أنهم يحرقونه ويذرّون رماده فوق بحرهم الأبيض المتوسط الجميل.
معرض بيروت الستينيات ألبوم لذكرياتنا الجميلة، ولِما كنّا عليه يوما قبل أن نذوي ونموت. ومع ذلك، ثمّة في بطن الجثة التي أصبحت عليها بلادنا، أجنّة صغيرة ما زالت تنبض بالحياة، تكتب وتُخرج مسرحيات وتنتج أفلاما وتصدح موسيقى وتصنع أحلاما ... من حجر وماء!