معركة الطوفان: مفاجأة تلدُ أخرى
توقّف الجميع، أكانوا خصومًا أم أصدقاء، أعداءً أم أحبّة، غرباء أم أشقاء، أمام مفاجأة فجر 7 أكتوبر على تخوم قطاع غزّة، في ما عُرف بمعركة طوفان الأقصى، وقد أصابتهم مشاعر متناقضة تراوحت بين الذهول والإعجاب، الفرح والغضب، لكنهم أجمعوا على أن لهذا الطوفان ما بعده، وأن متغيرات كبرى ستتبعه داخل بنية الكيان الصهيوني الذي اعتبرها معركة وجود واستقلال ثانية، وفي مسار القضية الفلسطينية ومستقبلها، وقد تعقبُه متغيّراتٌ في الإقليم، وفي النظرة إلى العلاقات التي تجمع المجتمع الدولي وتوازناته، وسيترك آثارًا واضحة في نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، وسيحفر عميقًا في الرأي العام العربي والعالمي، وهي تأثيراتٌ تحمل فرصًا للأفضل، لكنها تنطوي أيضًا على مخاطر ينبغي الانتباه إليها، فنحن نقفُ على مفترق طرق بين المخاطر والفرص.
على أن معركة الطوفان التي لم تُروَ فصولها كلها بعد لم تكن المفاجأة الوحيدة في هذه الحرب، بل يمكننا القول إنها، وفي يومها الأول، كانت حبلى بالمفاجآت المتلاحقة التي مُني فيها العدو الصهيوني بفشل استخباري وعملياتي لم يسبق له مثيل، وتساقطت دفاعات الفرقة العسكرية المكلفة بحماية غلاف غزّة كما تتساقط أوراق الشجر في يوم خريفي تعصف فيه الرياح، ولعلّي أميل إلى القول إن كتائب الشهيد عز الدين القسّام قد فوجئت أيضًا بحجم الانهيار الصهيوني، وحقّقت نتائج لعلها لم تحسب أنها ستكون بهذا الحجم وبهذه القوة التي أدهشت العالم.
وإذا كانت معركة اليوم الأول قد هزّت العالم، فإن ما بين اليومين الأول والثمانين للحرب المشتعل أوارها، وما تخلّلها من صمود ومقاومة باسلة مستمرّة ومستدامة ما زالت أصداؤها تتردّد في شمال غزّة ووسطها وجنوبها، بل وما زالت الاشتباكات تتوالى، والكمائن تُنصب على خطوط المواجهة الأولى ومحاورها في جحر الديك وبيت حانون، حيث يمكن الجزم أن العدو الذي تمكّنت آلته الحربية من تدمير أكثر من 70% من مباني قطاع غزّة، وقطع طرقاتها وفصل مناطقها، لم يكن في وُسعه ادّعاء سيطرته عليها وتصفية المقاومة فيها، وهو ما يمثّل معجزة أكبر من التي عشنا لحظاتها في اليوم الأول من "طوفان الأقصى"، ويضع قواعد جديدة في علم الحرب تُدرّس في الأكاديميات العسكرية، وستدوّنها كتب التاريخ، وإذا كان لها تفاصيل لم تُعرف بعد جميع حذافيرها، ولم تُحكَ قصص بطولتها، فيمكننا، من موقع المراقب، أن ندوّن بعضًا منها قبل أن نشهد نهاية الحرب، حيث تصبح معرفة جميع تفاصيلها وخباياها متاحة وممكنة.
فقدت القوات الفلسطينية على الساحة اللبنانية، بعد توجّه منظمة التحرير إلى التسوية، قدرتها على التحرّك بمجموعات فدائية صغيرة
تطوّرت أسلحة العدو وقدراته القتالية بين حرب 1982 ومعركة طوفان الأقصى 2023، كما اختلفت تكتيكات المقاومة الفلسطينية وأساليبها وتطوّرت لتواكب مقتضيات الوقائع الجديدة. وإذا كان العدو قد طوّر من قدراته التكنولوجية، وأنظمته الاستخبارية، وسلاحه الجوي والصاروخي والمدفعي، ومنظومات القيادة والسيطرة لديه، إلا أن قوّاته البرّية لم تتقدّم بالمستوى ذاته الذي شهدته أسلحته الأخرى، ويرجع ذلك، بشكل رئيس، إلى نشرها على الحواجز، وتكليفها بمهمّات شرطية في الأرض المحتلة لقمع الهبّات الجماهيرية، ومقاومة العمليات الفردية، الأمر الذي أدّى إلى تراجع مستويات تدريبها، وتدنّي إمكاناتها القتالية، وعدم قدرتها على مواكبة التطور في صنوف الأسلحة الأخرى.
من جهة أخرى، تغيّرت التشكيلات الفدائية للمقاومة الفلسطينية في لبنان من مجموعات فدائية إلى تشكيلات نظامية تضم فصائل وسرايا وكتائب وألوية، كما ضمّت كتائب متخصّصة مثل كتائب الهندسة والمدفعية، وأخيرًا أُضيفت إليها كتائب دبّابات من طراز T34، وتطلب ذلك تعزير منظومة القيادة والسيطرة، وتأسيس غرفة عمليات مركزية، نجم هذا التطوّر عن مسألتين رئيستين في ذلك الوقت: حماية الثورة الفلسطينية في لبنان وسعي منظمة التحرير إلى المشاركة في عملية التسوية بعد تبنّيها برنامج النقاط العشر عام 1974، وانعكاس هذا القرار السياسي على تموضعها في لبنان، حيث تركّزت قوتها في بيروت، وأصبح الحفاظ على وجودها في لبنان ورقة مساومة لمشاركتها في التسوية المنشودة. وبعيدًا عن نقاش نتائج هذه الاستراتيجية، وما أدّت إليه من نزاعات داخلية، وصراعات مع أطراف عربية، وتحميل المقاومة واجبات إضافية، فقد نجت في معارك، مثل حرب الليطاني عام 1978، وحرب الاستنزاف عام 1981، لكنها لم تحقّق أهدافها في حرب 1982 في أغلب محاور القتال، وتحديدًا في الجنوب وصيدا والعرقوب والجبل، حيث انهارت سلسلة القيادة والسيطرة، وجرت معارك بطوليةٌ بمبادراتٍ محلية، كما في صور وبرج الشمالي وعين الحلوة وقلعة الشقيف، لكنها تمكنت من خوض معركة باسلة في بيروت لضخامة حجم القوات هناك، وتمركز القيادات المركزية فيها. عمليًا، فقدت القوات الفلسطينية على الساحة اللبنانية، بعد توجّه منظمة التحرير إلى التسوية، قدرتها على التحرّك بمجموعات فدائية صغيرة، ولم تتمكّن خارج معركة بيروت من القتال بوحداتٍ شبه نظامية، نظرًا إلى الاختلال الكبير في ميزان القوى العسكري، وانقطاع سلسلة القيادة والسيطرة.
ما قامت به المقاومة منذ بدء العملية البرّية يمثل تطويرًا لقواعد علم الحرب، وإضافة قواعد جديدة إليه
المفاجأة الأكبر التي أظنها تفوق أهمية معركة 7 أكتوبر هي الاستراتيجية التي اتّبعتها كتائب القسّام منذ بدء الحرب البرّية، وهي استراتيجية تحتاج تدريبا طويلا، وعقيدة راسخة، وانضباطا صارما، واستعدادا عاليا للتضحية والشهادة. وقد شكّلت هذه النقاط بديلًا موضوعيًا مما يُعرف بالتشكيلات العسكرية النظامية في منظومة القيادة والسيطرة التي تعتمد على استمرار تسلسل الأوامر والتعليمات من القيادات العليا حتى المجموعات الصغيرة، وتطلّب ذلك خططًا تفصيلية، وسيناريوهات لمسار الحرب المتوقّعة، وتدريبًا دائمًا عليها، وتوفير الإمكانات اللوجستية من ذخائر وأسلحة وتموين ووسائل اتصال متعدّدة، وأنفاق ومستشفيات ميدانية داخلها، كما استوجب انتخاب مقاتلين تتوفّر فيهم السمات المذكورة، ليكونوا قادرين على تأدية مهمّاتهم في ظل القصف المتواصل، وفصل المناطق، وانقطاع الاتصالات، واستشهاد بعض القادة. لذا، لجأت "القسّام" إلى تقسيم قواتها إلى مجموعات صغيرة يتراوح عدد أفرادها بين ثلاثة إلى عشرة أفراد، ترتبط كلّ منها بمنطقة محدّدة سلفًا، ويُسند إليها واجبها القتالي في هذه المنطقة التي لا تفارقها مهما تقدّم العدو، أو اشتعلت جبهاتٌ أخرى بقربها، أو اشتدّ القصف والتدمير، وقد تنفّذ عدة مجموعات في مناطق، مثل جباليا والشجاعية، مهمّات مشتركة، ولا توجد خطوط تماسّ دائمة، فهذه تستنفد الذخائر خلال التراشق بالنيران، وإنما تظهر المجموعة وتدمّر آلية أو تقنص جنديًا، وتختفي لتعود وتظهر من جديد، في تطبيقٍ خلّاق لمبدأ اقتصاد القوى في علم الحرب. كما يفسّر استمرار الاشتباك في جحر الديك وبيت حانون، وهي مناطق اجتاحها العدو في اليوم الأول من عمليته البرّية. ما قامت به المقاومة منذ بدء العملية البرّية يمثل تطويرًا لقواعد علم الحرب، وإضافة قواعد جديدة إليه.
يقول العدو اليوم إن الأنفاق تزيد بنسبة 600% على ما كانت معلوماته تُنبئه حولها، فما زالت صندوقًا أسود
مفاجأة أخرى قدّمتها المقاومة لا تقلّ أهمية عن سابقتها، وهي الأنفاق الممتدّة إلى حيث لا يعرف أحدٌ لا أماكنها ولا حجمها ولا طولها ولا عمقها، على الرغم من زعم العدو تدميرها خلال معركة سيف القدس، وعلى الرغم من محاولات طائرات الاستطلاع الأميركية والبريطانية رصد مواقعها بلا جدوى، بل تحوّلت الأنفاق ذاتها إلى مصائد للعدو ومقابر لجنوده، ولم تفلح محاولاته (أظنها تندرج في إطار الحرب النفسية) بعزمه على إغراقها بماء البحر أو ضخّ غازات سامّة إلى داخلها، فهو يجهل تركيبها وامتدادها، ويقول اليوم إنها تزيد بنسبة 600% على ما كانت معلوماته تُنبئه حولها، فما زالت هذه الأنفاق صندوقًا أسود لا يعرف أسراره سوى من بنوها على مدى أعوام طويلة.
ثمّة مفاجآت أخرى يضيق المقام على ذكرها، لعل أهمها ما يجرى في الضفة الغربية، وعودة الأحكام العرفية إلى داخل "الخط الأخضر"، وتحوّل شعار وحدة الساحات إلى إسناد الساحات، وإغلاق باب المندب في وجه السفن المتّجهة إلى إيلات، وربط فتح بوّابة المندب ببوابة رفح. هي حربٌ لم تنتهِ مفاجآتها، وقد نشهد في أي لحظةٍ اشتعال الجبهة الشمالية، ومتغيّرات في الإقليم، وصمودًا أسطوريًا للمقاومة ومتغيّرات في الرأي العالمي، تحوّل ما يسعى إليه العدو الصهيوني من نصر تكتيكي إلى هزيمة استراتيجية.