معركة بوتين الأُخرى
منصب وزير الدفاع الروسي ذو أهمية خاصة، نظراً إلى ما يؤمن به فلاديمير بوتين، وما يعمل من أجله، منذ وصل إلى السلطة رئيساً بالنيابة في عام 1999. فمنذ ذلك التاريخ، خاض بوتين معاركه على جبهات عديدة ومتنوّعة، محاولاً أن يضع روسيا بمحتواها العسكري في مصافِّ الدول الأقوى، فقد دخل حرباً طويلة في الشيشان، بدأت منذ كان رئيساً للوزراء، وتابع الحرب بعد أن أصبح رئيساً، ولم يغادر الجيش الروسي شوارع غروزني إلا في عام 2009، وقبل أن ينهي الحرب في الشيشان، بدأ أخرى خاطفة في جورجيا، فقد أرسل جيشه للسيطرة على كلّ من مقاطعتي أبخازيا وأوسيتيا، وحقّق مراده في ظلّ عدم تدخّل غربي. وتكرّر الأمر في 2014، عندما سيطر على شبه جزيرة القرم الأوكرانية. وحينها، اكتفى الغرب بحزمة عقوبات. ويمكن اعتبار التدخّل في سورية عام 2015 حرباً، فقد شارك فيها الجيش الروسي الرسمي، وخصوصاً القوات الجوّية، مع نخبة من مرتزقة "فاغنر"، وهي مليشيا عسكرية روسية على صلةٍ بحكومة بوتين. وما زال بوتين متورّطاً، من الناحية العملية، في كلّ من سورية وأوكرانيا، وفي خضم هذا النشاط العسكري الواسع، يُعلن تغيير وزير دفاعه، وكان قبل ذلك قد غيّر نائب هذا الوزير، على خلفية تورّطه في عمليات فساد (!)
أقيل خلال الحقبة البوتينية أربعة وزراء دفاع، أوّلهم جنرال من مخلّفات الاتحاد السوفييتي، ورثه من حقبة بوريس يلتسين الذي أراد حين عيّنه أن يخفّض نفقات الدفاع، ويخصّصها لمشروعات التنمية، لكن حرب الشيشان ذهبت بذلك كلّه، فتخلّى بوتين عن ذلك الوزير، وعيّن مكانه رجل أمن سابقاً، كان زميلاً له في "كي جي بي"، وهو سيرغي إيفانوف. أراد بوتين أن يضمن ولاءً تاماً في الجيش، فوضع على رأس وزارة الدفاع رجلَ أمنٍ من أصدقائه، وأقاله قبل عام من انتهاء ولايته الثانية، إذ تخوّف بوتين من شعبية إيفانوف، فأزاله من منصبه، وأبقاه في موقعه التكنوقراطي؛ نائباً لرئيس مجلس الوزراء، وعيّن مكانه شخصاً قادماً من خلفية صناعية وتجارية، يدعى أناتولي سيرديوكوف، وكانت مُهمّته في وزارة الدفاع مكافحةَ الفساد المُستشري، ورفعِ كفاءة القوات الروسية. أراد سيرديوكوف أن يدير المؤسّسة العسكرية كما يدير شركة قابضة، فانتهى به الأمر مطروداً من وزارة الدفاع بتهم الفساد في عام 2012. عيّن بوتين بعده شيوعياً قديماً ذا خلفية عسكرية باهتة، هو سيرغي شويغو، الذي حاول أن يحوّل الجيش الروسي من جيش "مكلّفين" أو جيش تعبئة إلى مجموعة من المُحترفين، فركّز على جنود العمليات الخاصة، وكان من عرّابي الحرب في سورية، وهو مهندس القاعدتين العسكريتين، الجوّية في حميميم والبحرية في طرطوس، ولكنّه واجه مشكلات كبيرة في غزو أوكرانيا، وتفجّر الخلاف بينه وبين رئيس مليشيا فاغنر العسكرية، وما إن أعيد انتخاب بوتين، حتّى أقاله، وعيّن مكانه رجلَ اقتصادٍ صرف.لمنصب وزير الدفاع الروسي أهمّية خاصّة لدى بوتين، فهو اليد التي يستخدمها لعملياته الكبرى في الداخل وفي الخارج، ولكن، يبدو تخبّطه واضحاً في التشكيلة المُحيّرة من الرجال، الذين اعتمد عليهم في إدارة تلك القوات، فمن رجل أمنٍ إلى رجل صناعةٍ، ثم إلى مُجرّد حليف مُقرّب بمعرفة عسكرية بسيطة، وأخيراً إلى رجل اقتصاد، يبدو بوتين غير مُتأكّد مما ينقص قواته المُسلّحة، فهي بحاجة إلى أن تتحوّل احترافيةً بالكامل، وأن تضبط ميزانيتها، وأن تمتلك مقدرة على الاستخدام الأمثل للسلاح الموجود في يدها، وفي الوقت ذاته، يرغب بوتين في إبقاء الولاء، في تلك المؤسّسة الضخمة، تاماً وكاملاً له.
تبدو المُهمّتان متضاربتين إلى حدّ كبير، ورغم أنّ بوتين قد ضمن، حتّى الآن، وقوف القوات المُسلحة خلفه، ولكنّه بالتأكيد لا يستطيع أن يبني دولة "عظمى" بجيش تعثّر ولا يزال في أوكرانيا.