مع السلامة يا صبية
ذات يوم في منتصف عام 2012، كنت قد أتيت إلى القاهرة، قبل الاستقرار، في انتظار عودةٍ مأمولة إلى سورية، بعد رحيل النظام الذي كنا نظنّه وشيكا. كنت أتكلم مع الصديق المعتقل حاليا، فائق المير. كان قد استقر في الغوطة الشرقية، شأن ناشطين سياسيين وحقوقيين عديدين بعد خروج الغوطة عن سيطرة النظام، وقبل أن يعاود احتلالها جيش الإسلام، ويبدأ الفتك بناشطي الغوطة وبضيوفها الذين رغبوا بإنشاء أول تجربة في حكم الإدارة المدنية بعد الثورة، لتكون مثلا لباقي المناطق، لولا أن إرادة السلاح الذي ظهر بكثافة بيد كتائب سرعان ما تحوّلت إلى جيش منظم، لديه عناصره الأمنية ومعتقلاته وجلادوه، وأدت ذلك الحلم. وبدل أن تصبح الغوطة الشرقية مثلا فيما يجب أن تكون عليه باقي سورية، تحولت حياة البشر فيها إلى كارثة إنسانية، لم تكن أقل هولا من الكارثة التي تسبب بها النظام حين انطلقت الثورة. في ذلك اليوم، أخبرني فائق المير أن رغدة حسن عادت من بيروت تهريبا، بيروت التي قصدْتها، تهريبا أيضا، بعد خروجها من الاعتقال في 2011، وهي موجودة حاليا في الغوطة مع مجموعة من الرفقاء، وسوف تنتقل لاحقا إلى مدينة القصير قرب حمص وعلى الحدود مع لبنان، مع مجموعة أخرى، (كلها مناطق كانت خارجة عن سيطرة النظام تلك الفترة). قال لي فائق يومها: ليتك تأتين أيضا، ليت الجميع يأتون.
شعرت يومها بالحسد من رغدة، من قدرتها على الاستمرار في النضال، مع أنها اختبرت تجربة المعتقل أكثر من مرة. حسدت قوتها وجرأتها، أنا التي لم تمتلك جرأة فعل ذلك يوما، إذ أقصى ما جرؤت عليه، بعد الثورة، هو الكتابة العلنية ضد النظام، والخروج في مظاهرات في دمشق، والمساهمة بفك الحصار عن مناطق محاصرة، قبل أن أرضخ للخوف وأخرج من سورية حماية لابنتي ولي. ثم بدأت أتابع أخبار نشاط رغدة الثوري، وتنقلها بين المناطق (المحرّرة) في ريف دمشق، قبل أن تعود مجدّدا إلى بيروت، بعد اعتقال رفقاء لها في الغوطة، حيث كان زوجها وأولادها ينتظرونها، ثم تقصد فرنسا، كناشطين سوريين كثيرين، وتبدأ مسيرة حياة أخرى كانت لا تقل هولا (على المستوى الشخصي)، من الهول الذي لاقته في حياتها قبلا، من النظام السوري وأمنه وشبّيحته.
التقيت، في عام 2014، رغدة، بعد زمن طويل، في تركيا التي كانت قصدتها هربا من شأن شخصيٍّ سبب لها ضغطا نفسيا مرعبا. أظنه كان أحد أسباب ظهور الورم الخبيث في جسدها لاحقا. كانت ما تزال جميلة، بقوام ممشوق، وطلة لا يمكن لأحد نسيانها أو عدم الاكتراث بها. والأهم بكل لطف روحها، وصوتها الذي يفيض بالتسامح، وهي تسرد لي ما حدث معها وما عانته، في فرنسا من عنفٍ وقهرٍ يتلفان قلب أي كائن بشري وروحه، فكيف بروح بالغة اللطف والرقّة كروحها. أتذكّر، وأنا استمع إليها، أنني تساءلت من أين أتت هذه الشابة، التي لا تعرف كيف تخفي رومانسيتها، بكل تلك القوة التي جعلتها تنخرط سابقا في حزبٍ سياسيٍّ معارض، ثم تتابع نضالها بعد الثورة، تلك الرومانسية التي كانت سببا أيضا في ارتكابها أخطاء على المستويين، السياسي والوطني، جعل من بعضهم يعتبرون نعيها بعد رحيلها، قبل أيام، نوعا من النفاق، باعتبار أن الموت لا يجب أن يلغي ما ارتكبه الشخص في حياته. وهم محقّون في ذلك عموما، غير أن الوضع في حالة رغدة كان مختلفا. لم تكن رغدة قائدة سياسية، ولم تكن منظّرة. كانت امرأة حالمة بالحب والعدالة، تتبع في ذلك حدسها الشخصي الذي قد لا يكون على صواب دائما، فالنساء اللواتي يتبعن حدسهن وقلوبهن يكن أبعد البشر عن المعادلات الحسابية في السياسة وغيرها، يتعاملن مع تلك المساحة من الخطأ كما لو أنها أمرٌ عادي وطبيعي، وهو ما كانت رغدة حسن تماما عليه، وما مكّن الورم الخبيث من جسدها.
لم تقتل رغدة أحدا. لم تتسبب بالأذية لأحد، وإن حدث ذلك، وأجزم بنفي ذلك، فلم يكن سوى عن سوء تقدير، بل على العكس، تلقت، في حياتها القصيرة، أذى كبيرا، لم تشكُ منه يوما، ولم تستعرضه ولم تزايد به، شدّت عليه بروحها وجسدها حتى فتك بها تماما. ثمّة كثيرٌ مما يقال عن رغدة حسن، وما تعرّضت له من المنظومة الذكورية الاجتماعية والسياسية، من دون حتى أن يصيبها الحقد على تلك المنظومة، ومن دون أدنى حد من الكراهية تجاه من تسبّبوا لها بالأذى.