مفقودو سورية يكشفون تهافت "المبادرة العربية"
كشف التصويت الذي أجرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عن إنشاء مؤسّسة مستقلة تعنى بالمفقودين والمخفيين قسرياً في سورية، رثاثة (ووهن) ادّعاء الأنظمة العربية أن ما تسمّى "المبادرة العربية" الهدف منها تخفيف آلام الشعب السوري، وصولاً الى إيجاد مخارج تنهي أزمته، إذ يبدو أن كلام المبادرات النظري سرعان ما تمحوه الأفعال الجادّة.
باستثناء قطر والكويت، رفضت جميع الدول العربية التصويت لصالح القرار، وفضلت عدم التصويت، وهذا موقف ليس بريئاً، فعدم التصويت تصويت ضد مشروع القرار، ذلك أنه يُحسم من كتلة الأصوات المؤيدة للقرار، هو تذاكٍ دبلوماسي تمارسه الأطراف غير المصوّتة التي تراهن على إضعاف وزن كتلة الأصوات المؤيدة، وبالتالي إفشال مشروع القرار ومنعه من الاعتماد.
واضحٌ أن لعبة دارت داخل أروقة الأمم المتحدة، جرى خلالها تقاسم الأدوار، فهناك دول ترفض بشكل مباشر المشروع وتصوّت ضده، وهي التي لها خصومة مع الغرب، على اعتبار أن هذا المشروع يتساوق مع قيم الغرب المؤيد للثورات، في حين تمتنع دولٌ أخرى عن التصويت، تلك التي لها مصالح مع الغرب، ولكنها لا تريد زجّ نفسها بمواجهة مباشرة معه. وهنا تستطيع القول إنها لم تعارض القرار، لكنها رفضت التصويت عليه، وبذلك اختارت الحياد بين طرفين متصارعين.
إن لم يكن هذا انحيازاً لنظام الأسد ماذا يكون؟ قد لا تكون هناك مشكلة في أن تقف دولة في أميركا اللاتينية على الحياد، نظراً إلى بعدها عن الحدث السوري، رغم أن هذا الموقف سيوضع ضمن خانة السلوك اللا أخلاقي لحياده عن الحقيقة. أما أن تقف موقف الحياد بلدانٌ عربية شاهدت المذبحة السورية، وامتلأت أرشيفاتها بتفاصيل ما جرى في سورية، وربما اختفى بعض أبناء هذه الدولة على يد عصابة الأسد، فالحياد هنا يثير حوله شكوكاً، ويبدو خارج سياق المنطق والواقع.
مسألة المغيّبين قضية مركزية تمسّ الملايين من الشعب السوري
تعرف جميع البلدان العربية أن مسألة المغيّبين أصبحت قضية مركزية تمسّ الملايين من الشعب السوري، ويشكّل الاختفاء القسري الممارس من النظام جريمة ضد الإنسانية، وقد استخدمها نظام الأسد لابتزاز السوريين وإضعافهم لدفعهم إلى الهرب من سورية، ما يعني أن هذه القضية أحدثت ديناميكيات عديدة، استفادت منها عصابة الأسد، فكل من مات في البحار هرب من التغييب القسري، ومن باع منزله لمليشيات إيران فعل ذلك ليدفع لعصابات الأمن كي تكشف له مصير ابنه أو مكان إخفائه، وكل من لجأ الى الجوارين، القريب والبعيد، هرب من مصير التغييب القسري.
عدم التصويت على القرار يعني موافقة الأنظمة العربية على نهج التغييب الذي يمارسه النظام، هو دعم مباشر لهذه السياسات، وهو تكذيبٌ لآلام ملايين السوريين، وتصديقٌ لرواية النظام بشكل مباشر. ليقل الإعلام العربي ما يشاء ويتذرّع بما يريد، المسألة بوضوح هي هكذا: نريد استمرار هذا النمط من السياسات، وعدم تصويتنا إما سيساهم في إسقاط المشروع، أو سنكون في حلٍّ من أي التزامات يرتبها القرار على اعتبار أننا لم نؤيده.
المفارقة الغريبة أن ما تسمّى "المبادرة العربية" حسب ما نشرتها مجلة "المجلة" التي تقدّم بها الأردن، وأصبحت مبادرة الدول العربية، نصّت على "حضّ جميع الأطراف السورية وتركيا على التعاون للإفراج عن المعتقلين"، ودعت الى أن "تقدّم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والهيئات التابعة للأمم المتحدة ذات العلاقة الدعم والمساعدة للمُفرج عنهم لتسهيل إعادة دمجهم ضمن مجتمعاتهم".
كشف رفض الأطراف العربية التصويت على القرار أن ما تسمّى المبادرة العربية هي مجرّد ذر للرماد في عيون المجتمع الدولي
هذه الأمم المتحدة تجهز لدعم هذه الجزئية من المبادرة العربية، فلماذا تخلّى عنها العرب؟ فقد تهيأت فرصة ثمينة للمبادرة العربية، لتصبح ذات بعد دولي، وفرصة لتقوية الموقف العربي الذي يدّعي أصحابه أنهم يتفاوضون مع النظام، من أجل تنفيذ بنود مبادرتهم، فلماذا ضيّعوا هذه الفرصة؟ هل السبب أنهم يأخذون في حساباتهم خواطر عصابة الأسد على حساب آلام ملايين السوريين؟ هل هو الخوف من ردّة فعل هذه العصابة؟ وهل الدول العربية التي باتت تطالب بدور وازن في النظام الدولي وتصحيح اختلالاته الحاصلة وتتحدّى القوى الكبرى فيه تخاف من قول الحقيقة لعصابة مجرمة؟
كشف كلام مندوب مصر، المتحدث العربي الوحيد في الجلسة، حقيقة الموقف العربي "الذي يبدو أنه جرى التنسيق بخصوصه". تذرّع بأشياء عديدة لرفض بلاده التصويت على القرار، أغربها "افتقار القرار لتعريف واضح للأشخاص المفقودين". تُرى ألم يشاهد السفير فيديو مجزرة حي التضامن في دمشق؟ ما زال موجوداً على "يوتيوب"، وقد يوصله إلى الشطر الأول من تعريف المغيّبين. هم أشخاص، في الغالب عاديون، جرى اختطافهم من على الحواجز وخلال المداهمات والاعتقالات الممنهجة. الشطر الثاني من التعريف أن في سورية أكثر من عشرة آلاف حاجز، وعشرات الاعتقالات الجماعية اليومية، فضلاً عن تغييب الأشخاص لمطالبة ذويهم بتسليم أنفسهم، أو للحصول على الفديات، أو لمجرّد الانتقام من بيئة الثورة... هل يحتاج هؤلاء إلى تعريفٍ محدّد، ليتلقوا تعاطفاً معهم؟
كشف رفض الأطراف العربية التصويت على القرار أن ما تسمّى المبادرة العربية هي مجرّد ذر للرماد في عيون المجتمع الدولي، ومحاولة للضحك على الرأي العام العربي والعالمي، لإعادة تأهيل مرتكب آلاف المجازر بحق السوريين.