مقام المريمية والصبا
المريمية والعطرة والحلبة والزعفران أعشاب وأزهار طبيعية تنمو في مختلف أنحاء الأرض، استخدمها الإنسان في وصفاته الغذائية والطبّية المتنوعة. منها ما هو زهيد الثمن ومتوفّر في كلّ مكان، ومنها ما هو باهظ الثمن وينمو في أماكن معيّنة، ويحتاج إلى طرق خاصّة لحصاده والاستفادة من خواصّه. لكن، في عرض "دريسينغ روم" أخيراً، على خشبة مسرح ناصبيان في جزويت القاهرة، ضمن فعّاليات مهرجان وسط البلد وعروضه، تحوّلت هذه الأعشاب والأزهار شخصياتٍ مسرحية شبه حيّة موجودةً على المسرح، بجانب الممثّلة الرئيسة في العرض حلا عمران، التي قدّمت شخصيةَ امرأة تجاوزت الخمسين، أو لنقل إنها قدّمت شخصيةَ كلّ امرأة دخلت مرحلة انقطاع الطمث أو سنّ اليأس، كما يقال في العربية، أو "المونوبوز"، كما تسمّى في الإنكليزية.
أدّت حلا شخصيتها نفسها إذاً، أدّت أيضاً شخصية بيسان الشريف مخرجة العرض، وشخصياتنا نحن جميعاً، النساء اللواتي عانين من عوارض هذه المرحلة الصعبة نفسياً وجسدياً. تكلّمت عن آثارها، بوضوح أحياناً وبمواربة أحياناً أخرى، تاركةً لحالة القلق والتشتت التي تظهر عليها في تقديمها للعرض وفي ختامها له وفي أثنائه، أن تخبر الجمهور الكبير (في يومي العرض) عن الحالة التي تعاني منها غالبية النساء حين دخولهن هذه السنّ القاسية.
ليس العرض مونودراما، كما تقول حلا في البداية، رغم أنها الشخص الوحيد على المسرح، العرض يستخدم تقنية الفيديو فيعرض مقابلات عدّة مع سيدات عربيات من سورية وفلسطين ولبنان ومصر، يتحدّثن عن تجاربهن أثناء عبورهن هذه المرحلة بشكل مؤثّر وبالغ الصدق، واتفقن جميعاً على أن هذه المرحلة تختفي فيها المرأة عن النظر، تصبح كما لو أنها غير موجودة. هذا الاختفاء قد يكون من المرأة نفسها، إذ تنسى حياتها وهي تراقب التغيّرات المهولة الطارئة عليها، وقد يكون من المجتمع الذي يرى أن المرأة في هذه السنّ قد خرجت عن الصلاحية في الحُبّ والجنس والزواج والعمل، لتصبح امرأةً غير مرئيةً لمُجرَّد أن جسدها تغيّر وثدياها ترهّلا وغزت التجاعيد جلد جسمها ووجهها.
هنا تظهر الأعشاب والأزهار نوعاً من أنواع الحلول التي تعتمدها النساء، نوعاً من الطبّ البديل، في تخفيف عوارض هذه المرحلة واستعادة بعض خواصّ الأنوثة المفقودة. ثمّة ما يشبه المختبر على الخشبة، مائدة عليها ما يلزم لتحضير الخلطات اللازمة، مع شرح مؤثّر عن تاريخ كلّ عشبة وزهرة، وانتقال وصفاتها من جيل نسائي إلى آخر. وكأنّ النساء في الأزمان والأمكنة كلّها يتوارثن السرّ ذاته، السرّ الذي يحتجنه كي لا يسقطن في فخّ الإهمال والتواري. وكأنّ الإنقاذ يصنعنه بأنفسهن لأنفسهن. تقرأ حلا في العرض من دفتر عتيق وجدته في بيت العائلة الترابي القديم، كان الدفتر لجدّتها، خطّت فيه وصفاتٍ عديدةً مؤلّفةً من أعشاب وأزهار برّية، وكأنّ الطبيعة التي تسحب من المرأة ألقها، تعيده إليها عبر كرم خيراتها. نحن من الأرض وإليها، هكذا يبدو الأمر حين تتحدّث حلا مع نباتاتها الموضوعة أمامها على الطاولة في طرف المسرح.
والملفت في هذا العرض النسائي، الذي كان منذ ثلاث سنوات عبارة عن رسائل بين حلا وبيسان، تتبادلان فيها معلوماتهما عن أنواع الوصفات العشبية التي تخفّف وطأة تغيرات "المونوبوز"، أن من قام بترجمة هذه الأفكار نصّاَ جميلاً ذا حساسية عالية هو الداراماتورج السوري وائل علي، ما يبعد التعميم النسائي الخاطئ حول عدم تقدير الرجل لحالة العبور هذه التي تمرّ فيها المرأة.
يبدأ العرض بمحاولات حلا ضبط المقامات الموسيقية التي تتحوّل لديها مقام الصبا الشجي، وينتهي العرض باحتمالات متعدّدة للنهاية، منها أيضاً محاولة تغيير المقام المصرّ على بقائه في الصبا. ولكن أليس مقام الصبا هو أكثر المقامات الموسيقية قدرةً على التعبير عن تاريخ طويل من الحزن والهزائم والانكسارات تميّز العرب عن باقي شعوب الأرض؟
تحكي النساء المشاركات في الفيديو المُرافِق للعرض عن الحروب والمنافي، وعن الخيبة واللاجدوى اللتان يشعرن بها جميعاً، ليس بسبب عبورهن المرحلة الصعبة في أعمارهن فقط، بل لأنهن بنات هذا الحزن العربي القديم الذي يحيل حياتنا جميعاً مقام الصبا.