مكانة الوطن والإنسان في الأعمال المسلحة
مرّت المنطقة بتحوّلاتٍ كثيرةٍ خلال العقود الستة الأخيرة، أودت بالمنطقة إلى الحالة الكابوسية التي نعيشها اليوم. ومن بين هذه المسارات مكانة الوطن والإنسان في تحوّلات العمل المسلّح الذي شهدته المنطقة، والذي انتقل إلى أن يكون عالمياً. على هذا الصعيد، نستطيع القول إن هناك مسارين سار بهما العمل المسلّح في المنطقة، وصولاً إلى ما وصلنا إليه اليوم من عمل مسلّح.
ارتبط المسار الأول بالقضية الفلسطينية وبالصراع العربي ـ الإسرائيلي، واتخذ أشكالاً مختلفة منذ الستينات، ساهمت فيه تجارب مختلفة، من عمليات عسكرية داخل إسرائيل قادمة من الأردن، إلى عمليات احتجاز مدنيين داخل إسرائيل، إلى عمليات خطف الطائرات، إلى عمليات التفجير الذاتي الانتحاري بعد الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982. وأضاف خبرةً لبنانية بهذا المسار. وكانت بدايات العمليات الانتحارية بمعنى تفجّر الذات من أجل قتل الآخر قد بدأت من هناك مستهدفة الاحتلال الإسرائيلي، والوجود الأميركي والفرنسي العسكري، الذي وجد في بيروت بعض الوقت في العام 1983، وانسحبت إثر التفجيرات الانتحارية التي استهدفته. وقد استمرّ هذا النوع من العمليات، ولكن هذه المرّة باستهداف الإسرائيليين داخل إسرائيل عبر عمليات حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي وحركة فتح متأخرة في الانتفاضة الثانية التي انطلقت في أواخر العام 2000.
جاء المسار الثاني عبر مسار طويل ملتو، بدأته الحركات الإسلامية المتطرّفة في السبعينات بحمل السلاح ضد السلطات المحلية بوصفه أولوية القضايا، بعد تكفيرها وتكفير المجتمعات في هذه البلاد. وسارت في مسارٍ طويلٍ عبر الجهاد الأفغاني في مواجهة الاحتلال السوفييتي للبلد، ومن ثم عودته من هناك إلى البلاد العربية والغرب. وقد استثمرت الولايات المتحدة وغيرها من الدول العربية هذا المسار، من أجل توجيه آلاف المتطوّعين باتجاه أفغانستان، سواء كانوا متطرّفين أو غيرهم، وقد احتفلت بهم بوصفهم "أبطال الحرية" في مواجهة الاحتلال السوفييتي الكافر في أفغانستان. وقد سهلت الولايات المتحدة وغيرها من الحكومات في المنطقة، وفي محيط أفغانستان، حركة هؤلاء "المجاهدين" في ذلك الوقت، "الإرهابيين" في ما بعد، من أفغانستان وإليها.
تحولات كثيرة أدت إلى استبدال ثقافة الحياة بثقافة الموت
إذا كان هناك فروق بين المسارين، يمكن القول إنهما، جاءا من موقعين مختلفين: الأول، ولد من تداعيات وجود، استعمار غير تقليدي، ومن قضية تحرّر وطني لم تستكمل بعد، رغم أن هذا النوع من القضايا انتهى في العالم أجمع منذ عقود، بمعنى أن هذا المسار كان وطنياً، معبّراً عن يأس من إنجاز حلول عادلة لقضية ظلم تاريخي تعرض لها شعبٌ كامل. الثاني، جاء من قضايا تتعلق بالهوية، بمعنى ولد داخل البلدان العربية من تكفير الحاكم المحلي، وجرى تصديره إلى أفغانستان، عبر الهوية الدينية التي تم حشد المتطوعين على أساس أن هذه الهوية مهدّدة في أفغانستان، بفعل الاحتلال السوفييتي. وبذلك، يمكن فهم كيف يمكن لمقاتل من المنطقة أن يترك الصراع مع إسرائيل، ليذهب إلى "االجهاد" في أفغانستان. لم يعتبر هؤلاء الصراع في أفغانستان البلد، بوصفه بلد الشعب الأفغاني، بل اعتبروه صراعاً على الهوية الإسلامية لأفغانستان، وبالتالي، كان توجيه الجهاد إلى هناك بوصفه جهاداً ذا طابع هوياتي إسلامي، لا يعرف معنى للحدود الوطنية أو للقضايا الوطنية، هو صراع من أجل الوصول إلى الجنة، لا من أجل الوصول إلى الحقوق الوطنية.
ما الإضافة التي جاء بها إدخال الهوية إلى الصراعات؟ تمثلت الإضافة الأساسية بإزاحة مكانه الإنسان والوطن من مركز الصراع، فلم يعُد الإنسان وحقوقه هي القضية المركزية التي يدور حولها الصراع، وبذلك انخفضت مكانة الإنسان وبات هامشياً، ولم تعد قضاياه موجودة في هذا العالم، بل قضيته الرئيسة أن يصل إلى العالم الآخر. وشكّل هذا معطىً أساسياً لاستبدال ثقافة الحياة بثقافة الموت.
انخفضت مكانة الإنسان وبات هامشياً، ولم تعد قضاياه موجودة في هذا العالم، بل قضيته الرئيسة أن يصل إلى العالم الآخر
أخطر ما جاء فيه هذه التحوّل نقل موقع الإنسان والقضايا من موقعها في العالم الواقعي الذي يصارع على قضايا واقعية تحلها الاستجابة لحقوق المظلومين في وطنهم، سواء كان محتلاً أو حكماً محلياً ظالماً، إلى مكان خارج الأرض، نقل الصراع إلى بعد سماوي، باتت فيه الحقوق والظلم والعدالة وحياة البشر تفصيلا لا معنى له. وبالذهاب إلى أقصى المعادلة، يحلّ المنتحر مشكلته الشخصية بحجز مكان له في الجنة، من خلال قتل الآخرين. لقد تم تحويل الموت إلى هدفٍ بحدّ ذاته، وعلى الذاهب إلى الموت أن يكون سعيداً بموته، لأنه سيذهب إلى الجنة. وماذا عن الضحايا الأبرياء؟! الجواب أنهم سيكونون في الجنة شهداء. .. من الذي أعطاه الحق أن يستشهدهم رغماً عن إرادتهم؟ لا جواب. إنه العبث بحياة الناس بوصف الحياة لا معنى لها أمام الأوامر الإلهية التي يقرأها التطرّف الإرهابي بوصفها أوامر بالقتل فقط.
لم تستهدف العمليات الانتحارية التي قامت بها المجموعات الفلسطينية، أو من هم على هامشها، موت فاعليها، ولا موت المحتجزين فيها، لقد هدفت، بشكلٍ أساسيٍّ، إلى إطلاق سراح معتقلين عند إسرائيل أو غيرها، ولم تستهدف القتل من أجل القتل. كانت العمليات التي سميت في وقتها "العمليات الانتحارية" بتوصيفٍ يكاد يكون حياديا، تقوم على مخاطر الموت في العملية، وليس حتميته. بمعنى آخر، لم يكن من يقوم بها يستهدف موته أو موت الآخرين، إنها عملياتٌ من أجل إنجاز ما في العالم الواقعي. مع العمليات الإرهابية، بات الموت مطلباً، ولم يعد الإنجاز مهماً، لأن من يقوم بالعملية يستهدف الفعل نفسه، وأصبح قتل أيٍّ كان في أي مكانٍ من الكرة الأرضية "جهادا في سبيل الله".
تم تحويل الموت إلى هدفٍ بحدّ ذاته، وعلى الذاهب إلى الموت أن يكون سعيداً بموته، لأنه سيذهب إلى الجنة
بالتأكيد، لم تكن العمليات الماضية بريئة. كان الإرهاب واحداً من أدوات الصراع القائم بين القطبين في زمن الحرب الباردة، وكان كل قطبٍ يرعى، بشكل أو بآخر، الإرهاب العامل في مناطق نفوذ الطرف الآخر، حتى أنه صنع هذا الإرهاب في هذه الدول عبر أجهزته المخابراتية، سواء KGB الروسية، أو CIA الأميركية وحلفاؤهما طبعاً. ويبدو أن تحكم الطرفين بالعمل الإرهابي، جعله مضبوطاً إلى حد ما بقواعد "الحرب الباردة" القائمة بين الطرفين في ذلك الوقت.
مع انهيار نظام القطبين، انهارت قواعد الصراع القديمة، وبتنا أمام قطبٍ واحد، حاول أن يتخلى عن أدواته القديمة، وأن يخلق عدواً جديدا له، تخلّى عن "مجاهدي الحرية!" الذين لم يعد في حاجتهم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وباتوا يناسبونه عدوا جديدا. لكن هذا العدو الجديد الذي اختارته أميركا لا يعرف أو يعترف بقواعد للصراع. وبكسره كل قواعد الصراع لا أحد يعرف من أين يأتي خطره! الوهم بأن هؤلاء يشكلون التحدّي للمارد الأميركي أعطاهم زحماً من التأييد في أوساط اليائسين. ورغم خطرهم، إلا أنهم مجموعة صغيرة ومؤذية، تحتلّ مساحة أكبر من حجمها بكثير، إنها أقلية تسرق صورة مجتمعات مسالمة، تحوّلها إلى صورة نمطية، ويتم تكبير هذه الصورة من الآخرين كلّ لأسبابه. وكما كانت هناك أيد استخبارية طويلة تاريخياً في الحركات الإرهابية، لم تكفّ هذه الأيدي اليوم عن العمل في هذه الحركات، والتي توحي أن ثقافة الموت باتت الثقافة السائدة عندنا.