من أجل تسوية سياسية شاملة للأزمة السودانية

18 ديسمبر 2024
+ الخط -

أذاعت وكالة الأناضول في 13 ديسمبر/ كانون الأول الجاري أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أبلغ رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، في اتصال هاتفي، بأن في وسع بلاده التوسّط لحل الخلاف بين السودان والإمارات، وهو ما أكده إعلام مجلس السيادة الانتقالي الذي ذكر أن البرهان ثمّن "جهود تركيا من أجل السلام والاستقرار في المنطقة والإقليم ومعالجتها للكثير من القضايا على المستويين الإقليمي والدولي، مشيرا إلى نجاحها في معالجة الملف السوري".

وأحيا هذا الاتصال، على ما يبدو، الأمل في نفوس سودانيين كثيرين في وقف الاقتتال الدائر في بلادهم منذ منتصف إبريل/ نيسان 2023، فالتمرّد الذي تسببت به قوات الدعم السريع لا يُنظر له مجرّد تمرد قوات مشاة على أوامر قائد الجيش، فقد اختلطت بسببه سرديات هذه الحرب بأجندة سياسية أخفت دوافع الفاعلين الحقيقيين، تحت ذريعة محاربة فلول نظام عمر البشير وإعادة الديمقراطية حينًا، ومحاربة دولة 1956 التي خلفها الاستعمار حينًا آخر، وخلاف ذلك من أقوال، وهي وإن كانت كلها متهافتة إلا أنها أفضت، في المقابل، إلى تحويل الخلاف السياسي السوداني إلى رافعة لتدخلات خارجية ظلت تغذي استمرار الحرب بأشكال مختلفة، ففي حين تتواصل القوى المدنية التي يتزعمها عبد الله حمدوك، رئيس وزراء الفترة الانتقالية المستقيل، مع "المجتمع الدولي" لاستعادة الحكم المدني، الذي بدأ انتقاليّاً بشراكة مع الجيش في أغسطس/ آب 2019، يبرّر الجيش حقه في الاستعانة بالدول المصنعة للسلاح لتزويده بما يعزّز قدراته القتالية، فهو المؤسّسة الوحيدة المخول لها دستوريًا استعمال القوة للحفاظ على سيادة البلاد ووحدتها. وفي الأثناء، وبحسب تقارير، ظلت ثروات البلاد تُهدر إما بالنهب والتهريب من جهة أو باستعمالها في تأمين السلاح واستطالة أمد الحرب؛ ولا أحد يكترث لتداعيات هذا الاقتتال، ولا إلى تعاظم فقدان الأروح وتدمير البنى التحتية للبلاد وتهجير الملايين من المواطنين في ظاهرة نزوح داخلي وخارجي غير مسبوق بكل مقاييس الحروب في المنطقة والعالم.

ليست الإمارات وحدها التي عقّدت الأزمة السودانية، لقد تسببت ازدواجية مواقف روسيا هي الأخرى في تعقيد حرب السودان المنسية إعلاميّاً، فروسيا تستثمر مع قوات الدعم السريع، ومن جهة أخرى تمد يد العون للجيش في ملفي الذهب والقاعدة اللوجستية لبحريتها، التي تأملها على البحر الأحمر. وما كان ذلك الخلل الاستراتيجي ليحدُث لولا فراغ القيادة السياسية وغياب الإرادة الوطنية وشبهة تماهي القوى المدنية مع قوى خارجية لا يهمّها استقرار السودان بقدر اهتمامها بمطامعها في ثرواته وموقعه الجيوسياسي؛ والحال كذلك، أي أمل في حل الأزمة السودانية يمكن أن تدعمه تركيا؟

لا أحد يكترث لتداعيات الاقتتال في السودان، ولا إلى تعاظم فقدان الأروح وتدمير البنى التحتية للبلاد وتهجير الملايين من المواطنين في ظاهرة نزوح داخلي وخارجي غير مسبوق

توفر لكاتب هذه السطور، بعد شهر من اندلاع الحرب في الخرطوم، أن يبادر ضمن فريق عمل أطلق على نفسه اسم "سودانيون مهتمون"، وهو فريق عابر للانتماء الأيديولوجي والمناطقية الجهوية، بطرح أفكار لإيقاف الحرب واستدامة السلام في السودان، وقد ضُمنت تلك الأفكار في ورقة سياسات مُلكت لعديد من الجهات السياسية والأفراد والمنظمات الفاعلة محليًا وإقليميًا، غير أن رقعة الحرب توسعت وتعمقت معها الأزمة ولم يستعِد السودانيون رباطة جأشهم ولم يتحلوا بالخصلة التي ذكرها سيدنا عمرو بن العاص في حق الروم، حين عدد في خصالهم أنهم "أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة"؛ فقد تبين لكل صاحب عقل أننا لم نعجز فقط عن الإفاقة بعد من صدمة الحرب بل عمق الاقتتال خطاب الكراهية بيننا، كما اتسعت هوة الخلاف بين السياسيين؛ فركنّا لسجالات صفرية عدمية، وإلى استسلام وانهزام أمام تناطح السياسيين وعجز العسكريين والإدارات الأهلية.

في وقت سابق، اقترح فريق عمل "سودانيون مهتمون"، تداركًا للفراغ السياسي، تبنّي رؤية لتأطير جهود الوساطة وأدوار الأطراف الثالثة، وهي رؤية قد يكون من المناسب التذكير بمضامينها في سياق اتصال أردوغان بالبرهان، تعزيزاً لروح التفاؤل بإنهاء هذه الحرب لصالح بقاء الدولة السودانية ورسم مستقبل البلاد، وتأكيدًا لمنظور يُعلي من رهان العمل الوطني المشترك بين أبناء البلد الواحد، منظور يُدرك أن هناك مبادرات عديدة (داخلية وخارجية) ما زالت تطرح لحل المشكل السوداني، ولكنه لم يتحقق بعد لأي منها النجاح؛ ليس فقط لأنها مبادرات أحادية الوجهة، وإن توفر لبعضها تضمين عبارات جذابة كجملة الحل الشامل الذي لا يستثني أحداً، فعيب تلك المبادرات بجانب المحتوى السياسي الذي ينظر إلى المشكل وكأنه أزمة سلطة يَكْمُنُ حلها في التدبير القانوني يتمثل في إغفال ما يمكن أن تؤديه كيمياء الثقة في الوجدان السوداني سياسيّاً، فثمة إحساس لدى جمهور من السودانيين بأن جوهر الإشكال يتمثل في فقدان "الثقة" في القادة السياسيين، وفي اقتصار حلول الأزمات السودانية وانحصارها في السياسة والقانون مع إغفال البعد الأخلاقي الذي تستند إليه المواثيق والعهود، على الرغم من أهمية الأخلاق في الحكم على الفعل السياسي. وما ضمنه أبيل ألير في كتابه الموسوم بـ"التمادي في نقض العهود والمواثيق" واحدٌ من وجوه التعبير عن هذا الوجدان الرافض لثقافة سياسية لم تكف عن توليد الأزمات في تاريخ السودان الحديث.

إذا سلمنا بذلك، فإن استعادة الثقة بين الأطراف السياسية تحتاج "قادة كباراً لديهم الرغبة في التنازل عن المكاسب الحزبية الصغيرة، والطموحات الشخصية الضيقة، من أجل المصالح الوطنية الكبرى؛ قادة يمتلكون الشجاعة اللازمة للتأشير إلى مسار جديد نحو المستقبل يرتكز على الرغبة الصادقة في العيش المشترك والتضامن من أجل السلام والتنمية العادلة وإعادة البناء الوطني".

لا مفرّ، في غياب أولئك القادة الكبار ذوي المقبولية الواسعة، ولاستعادة التعافي للقوى السياسية التي عانت الأمرين في العقود السابقة، من التواضع على وساطة من طرف ثالث، تتوفر لديه الموثوقية والمكانة لدى الأطراف السودانية المختلفة بجانب القدرة على حثها على توقيع وثيقة حسن نوايا، على أن تفضي تلك الوساطة إلى تحقيق جملة من الاختراقات السياسية المهمة، منها على سبيل المثال: استعادة الثقة المفقودة بين النخب وقادة العمل الوطني، وإعادة الأمل إلى أبناء الوطن المهاجرين والمشردين وحثهم على العودة، وبلورة نموذج جديد في إدارة الخلاف والانتقال السلمي للسلطة.

قد يتضاعف الخوف في نفوس السودانيين نتيجة ما تفرزه أجواء الحرب من انقسام مجتمعي، واصطفاف سياسي عدمي

تلك المهام من الصعوبة بمكان، لا سيما في ظل نفسية المجتمع التي شكلها الحزن والخوف تحت وطأة الحرب الراهنة؛ "الحزن على ما وقع من إزهاق للأنفس ودمار للممتلكات وتشريد للأسر؛ والخوف من المستقبل المجهول الذي سيطل برأسه في مرحلة ما بعد الحرب". وقد يتضاعف هذا الخوف نتيجة ما تفرزه أجواء الحرب من انقسام مجتمعي، واصطفاف سياسي عدمي إلى درجة قد يفقد فيها الجميع الثقة في كل شيء، وبذلك تتحوّل الحرب، لا قدّر الله، من المستوى العسكري إلى المستوى الاجتماعي، وإلى تمزق كارثي في النسيج النفسي السوداني المتسامح، والانزلاق في خطر انحلال الرباط الوطني الجامع.

يقع تجنّب مثل هذا المصير على عاتق القوى السياسية والمجتمعية والقادة العسكريين في المقام الأول، ويجب أن يساندهم في ذلك قادة الرأي ومؤسسات التفكير. وحتى تُنجز هذه المهمة، لا بد من تحديد دقيق وأمين للمخاوف، حقيقيةً كانت أو متوهّمة، ليأتي التفكير من بعد ذلك في كيفية العمل على إزاحتها لتعود الحياة الاجتماعية والسياسية إلى مسارات التعافي الوطني والتدافع السلمي. وقد توفر لسكرتارية فريق عمل "سودانيون مهتمون"، التي شرفت بالعمل ضمن فريقها، أن حدّدت ثلاثة تخوفات (حقيقية أو متخيلة) لما قد تؤول إليه الأمور بعد انتهاء الحرب، رأينا أنها تهيمن على الفضاء العام وأن من المهم التعاطي الإيجابي معها: فهناك، أولاً، من يتخوّف من قيادات نظام البشير، ويجزم بأنهم يحرّكون الأحداث من خلف الستارة، وأنهم قادمون لا محالة. ولذلك يقف ضدهم، لا يسمع ولا يرى غير هذا الرأي. وفى المقابل، هناك، ثانياً، من يتخوّف من قيادات قوى الحرية والتغيير، وقيادات "تقدّم"، ويجزم أنهم يمثلون حاضنة سياسية لقوات الدعم السريع، وأنهم يستعدون للعودة إلى السلطة من خلال القوى الخارجية (الإقليمية والدولية). ولذلك يقف ضدّهم، لا يسمع ولا يرى غير هذا الرأي؛ ثم هناك، أخيراً، عامة الناس الذين يتخوفون من استمرار الحرب ومن عواقبها، ويتخوفون من القوات المشتركة ومن الأطراف المشاركة في الحرب أن تعمق فكرة المليشيات مستقبلًا أو أن تستثمر فيها لفرض خياراتها إن خرجت منتصرة.

الخروج من مناخات الخوف والخوف المتبادل يتطلب، في تقديرات فريق عمل "سودانيون مهتمون"، استصدار أربعة تعهدات

إذا صحّ ما وصفناه أعلاه، فإن الخروج من مناخات الخوف والخوف المتبادل يتطلب، في تقديرات فريق عمل "سودانيون مهتمون"، استصدار أربعة تعهدات تعبر عن حسن النيات، تُوقع عليها الجهات الفاعلة في المسرح السياسي السوداني بضمانات الوساطة: الأول: يصدر عن قيادة القوات المسلحة، تؤكد فيه ما أكدته سابقاً أنها ستخرج من العملية السياسية، وستتفرّغ لدورها الذي كفله لها القانون؛ من محافظة على الأمن القومي وسلامة المواطنين والحفاظ على الاستقرار، وأنها ستقف على مسافة واحدة من المجموعات السياسية إلى حين انقضاء فترة انتقالية متوافق عليها بين القوى السياسية المختلفة. الثاني: يصدر عن قيادة الحركة الإسلامية السودانية، تؤكد فيه بوضوح أنها ليست راغبة في استعادة نظام البشير، وأنها لا تسعى إلى استعادة السلطة عن طريق القوة العسكرية، وأنها لا تسعى إلا إلى ممارسة حقوقها الوطنية المشروعة، مشاركة في السياسة، ومساهمة في البناء الوطني، وأنها تأمل في فترة انتقالية تعقبها انتخابات عامة على أسس تتوافق عليها المجموعات السياسية المختلفة. الثالث: يصدر عن قيادات القوى المدنية، في "تقدّم" والأحزاب المنضوية من قبل تحت إعلان قوى الحرية والتغيير، مجتمعة أو متفرّقة، تؤكد فيه إدانتها الكاملة للانتهاكات التي ارتكبتها قوات الدعم السريع، وأنها لا تسعى إلى استعادة السلطة عن طريقها أو عن طريق القوى الأجنبية، وأنها لا تسعى، في الفترة الانتقالية، إلى فرض أيٍّ من خياراتها الأيديولوجية على الآخرين، وأنها تأمل في فترة انتقالية تعقبها انتخابات عامة على أسس تتوافق عليها المجموعات السياسية المختلفة. الرابع: يصدر عن قيادات الحركات المسلحة، المختلفة، تؤكّد فيه أنها لن تستثمر الرخاوة الأمنية التي تسبّبت فيها الحرب لتنفيذ أجندتها الخاصة، الضيقة.

المأمول أن يمثل صدور هذه التعهدات الأخلاقية - السياسية، التي تعبر عن حسن النيات، الخطوة الأولى السابقة للدعوة إلى مؤتمر قمة مصغّر (سوداني - سوداني) يضم ممثلين لهذه المجموعات، بحيث يتم فيه التوقيع العلني على هذه التعهدات، لتصبح بمثابة "وثيقة حسن النيات"، وأن تتضمن فيها المبادئ الموجهة للعملية السياسية. ثم تناقش في ذلك المؤتمر أهم المحاور والموضوعات التي يُؤمل أن تفضي إلى تسوية شاملة، بحيث تضع حلولاً ناجزة لأزمة حرب 15 إبريل، بوصفها الأزمة الأخطر في تاريخ الدولة السودانية، وتتوافق على موقف موحّد من مستقبل قوات الدعم السريع، مستصحبة يوميات الحرب بتدبر وتبصر عينه على مستقبل الوطن ووحدة البلاد وكرامة إنسانها، وأن تتدارس وجهة العلاقات الخارجية مع دول الإقليم والعالم على أساسٍ من مبادئ احترام السيادة الوطنية والشركات الاقتصادية والمصالح؛ فإلى أي مدىً تتوفر لتركيا، ورئيسها أردوغان، الرغبة في قيادة وساطة كهذه، تنهي الأزمة السودانية الراهنة من جذورها وتعالج تقاطعاتها مع الخارج؟ وإلى أي مدى الأطراف السودانية مستعدة لذلك؟

CE7B15B1-9F78-463E-B6CE-ABAF1FB09E37
CE7B15B1-9F78-463E-B6CE-ABAF1FB09E37
أبو بكر محمد أحمد إبراهيم

كاتب وأستاذ جامعي سوداني، المنسق الأكاديمي لبرنامج الدراسات الإسلامية، والأستاذ المشارك بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة قطر

أبو بكر محمد أحمد إبراهيم