من أين أدخل في الكتابة؟
لا يني هذا السؤال يلاحقني: من أين أدخل في الكتابة بعد 4 أغسطس/ آب، وما سبقها وما تلاها، تصرّفا بما طرحه الشاعر حسن العبد الله حين كتب قصيدته التي عنوانها "من أين أدخل في الوطن؟". من أين أدخل في المعنى المستجدّ، الضائع، المعنى المحروق الذي نمضغ ونعلك ونجترّ، منذ عقود. هذا ليس سؤالا من ضمن أسئلةٍ عديدةٍ قد تواجه المرءَ خلال حياة. إنه سؤالٌ وجوديّ، وسؤالُ البقاء أحياء لمن هم مثلنا، حين تكون الكتابة خبزا وملحا وهواء. في ما مضى، كنت أردّد: "ما الذي سينقص العالَمَ إن لم أعد أكتب؟"، وكنت أكثر ما أحبّ الإجابة: "بالطبع لا شيء"، إذ كان في ذلك حرّية طازجة، شيءٌ من غبطة المخاتلة والصدّ والامتناع، حاوية حافظة من أتون النار.
اليوم، وبعد كلّ ما جرى ويجري، هنا وهناك، ما عاد ذلك ممكنا، شافيا، إذ ثمّة ما يستحيلُ السُّكوتُ عنه. مزيجٌ من عبثٍ وتراجيديا، إفلاسٍ وصدأ واهتراء، قيحٍ وسعير. فالمشهدُ اليوميّ لا يُدان فقط، بل يُدين، يؤذي ويوجع ويُمهِل ولا يُهمِل، كأنّه عينُ الإله وقد فُتحت على أيّوب وقد حُسد على بحبوحته جرّاء صلاحه وإيمانه وطاعته الربّ. قيل إن ثمّة من أوعز لمصدر رخائه: اضربْه بالغالي على قلبه، سوِّد أيامَه وأبِد أحبّاءه، وسوف ترى كيف سيكفر بك، فنذكّرك آنذاك بطاعته وتفانيه. أصغى الإلهُ وانتزع من أيّوب نعمَه كافة، وأنزل به كلَّ ما أرادوا به من سوء. ولكن، لماذا رضخ الإلهُ وانصاع لرغبة نافث الشرّ؟ أوَ يستمع الإلهُ هكذا لكل من يُوسوس له، فيجرّب من يحبّ فقط، لكي يثبت صحّة الظنّ في "الرجل الكامل المستقيم"؟
أفكّر في المسكين أيوب، ولا أستطيع إلّا أن أرى له شبَهًا كبيرًا بنا، بلبنان. كنّا في جنّة مشرعة للجميع، وكنّا بستان ثمار غضّة وحريّة وأفكار. لكنّ الربّ أنزل بنا أشدَّ عقاب. الحرب الأولى والمجاعة الكبرى التي قضت على مائتي ألف نسمة تحوّلتا إلى قصّة جراد غطّى سماء جبل لبنان، وأتى على الأخضر واليابس. لم يُقل الكثير عن التجويع الإرادي والحصار بحرا من قبل الحلفاء، والحصار برا من الأتراك. بل لم يقل شيء عن شبه إبادة بالتجويع (1915 - 1918)، بعد إبادةٍ سابقةٍ فتكت بالشعب الأرمني وهجّرته إلى بقاع الأرض، ومنها لبنان، ذلك أن التكافؤ الطائفي لم يكن متوفرا، مع موت 80% من المسيحيين.
ثم انتهت الحرب، فخرجنا إلى "نِعَم" سايكس بيكو، والانتداب الفرنسي وما تلاه من استقلال واكتشاف النفط العربي وبحبوحة البلد التي لم تدم أكثر من ثلاثين عاما. أثمّة من همس للربّ يومها: يكفي هؤلاء فخرا وتشاوُفا وتفلّتا، هيّا عاقبهم واضربهم بيد من حديد؟ إذ هكذا كان. أشعلناها حربًا أهلية، وأتينا على الأخضر واليابس، حتى دككنا كل ما يقف على قاعدة أو قدمين. ثم ثلاثون سنة "هدنة" تخلّلتها اغتيالاتٌ واحتلالاتٌ وإعادةُ عمران، فيما نارُ الطائفية والاقتتال المذهبي مشتعلة تحت الرماد. "لا تتركهم، وإلا هزؤوا بك وتشاوفوا عليك وتاجروا بك"، همس إبليس مرة أخرى، فكان أن تركنا الإلهُ هذي المرّة للقتلة من أبنائنا وأهالينا ومصّاصي الدماء. هؤلاء ضربونا ببعض، وأرخوا الحبالَ وأفلتونا لنتناحر. أرسلوا المجاعة، وأرسلوا الحرائق، وأرسلوا الطوفان. سلبونا أبناءنا وأموالنا، وأضافوا إلى ذلك كلّه الأوبئة والأمراض. لكننا، على عكس أيّوب، وقد استجاب له الربُّ بعد طول معاناة، وكافأه عن كلّ ما خسر من بنين وماشية وأراضٍ وأموال، ما زلنا ننحدر إلى هاويةٍ لا يستقرّ لها قعر.
المجاعة الكبرى، مئتا ألف قتيل. مجاعة اليوم، بالملايين. انتفاضة مدينة طرابلس الجارية هي انتفاضة الجوع والفقر. دائرتها ستتّسع عمّا قريب. السلطنة العثمانية أصبحت في خبر كان، لكن السلطنة السياسية الحالية أكثر شراسة من تلك، هي المتمثّلة في أهل السلطة وعسسهم.
من "أين أدخل في الوطن" بعد هذا كلّه؟ من أين أدخل في الكتابة؟