من الهيمنة الليبرالية إلى نظام اللاقطبية
نجح الأميركان منذ الحرب العالمية الثانية في إعادة بناء النظام الدولي تحت سيطرتهم على أنقاض ما عرف وقتها بنظام السلم البريطاني Pax Britannica، بفضل تفوقهم العسكري الهائل، ثم برنامج مساعداتهم الموجه إلى أوروبا المنهكة من الحرب، في إطار ما عرف بمخطط مارشال، فقد دفعت بهم الأحداث التاريخية، ومن ذلك صراعات الأوروبيين التي لا تنتهي، دفعاً نحو دخول الساحة الدولية، على نحو ما ظهر ذلك جليا في المبادئ الأربعة عشر لوودرو ويلسون ودوره النشيط في صياغة بنود معاهدة فرساي ومؤتمر باريس سنة 1919 الذي ضم القوى الأوروبية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى على حساب القوى المهزومة. وقد تمكّن الأميركان على امتداد هذه المسيرة، أي منذ الحرب العالمية الأولى، من هزيمة ثلاث قوى كبرى في المجالين، الأوروبي والآسيوي، وهي ألمانيا الجمهورية ومن بعدها النازية، واليابان الإمبراطورية، ثم أخيراً الاتحاد السوفييتي.
ضمن سياق الحرب الباردة، تم تكوين ما يشبه نادياً ديمقراطيّاً محروساً بحلف شمال الأطلسي، يضم الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين بدرجة أولى، في مواجهة اتحاد سوفييتي معبأ أيديولوجياً ومسلح عسكرياً بذراع قوي (حلف وارسو)، لكنّه كان أضعف من الناحية الاقتصادية ومواقع النفوذ الدولي، بحكم أنّه ولد من أصله محاصراً.
وعند التمحيص، يتبين أنّ النموذج الليبرالي الأميركي الذي فرض نفسه بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من كلّ الصعوبات التي يواجهها، ما زال له قصب السبق في المعادلة الدولية، بحكم تفوّق الولايات المتحدة في ميزان القوى العسكري، وبدرجة أقل على الصعيد الاقتصادي المالي، عبر أذرعها الدولية الضاربة. بيد أنّ النموذج الليبرالي نفسه بات يواجه اليوم منافسة جدية من قوى دولية صاعدة وأخرى قديمة عائدة، توازياً مع الصعوبات الداخلية التي أضحت توهن عظمه من الداخل، على نحو ما بدا ذلك واضحاً في الأزمة الاقتصادية سنة 2008 التي ما زالت تداعياتها قائمة.
أكبر التحديات التي تواجه الغرب اليوم صعود حداثة صينية تبدو بمثابة مزيج مركب من السلطوية السياسية "المهذّبة"
المفارقة العجيبة، أو لعلّه مكر التاريخ بلغة هيغل، أنّه في السنوات التي كان يحتفي الأميركان بانتصارهم النهائي على العدو الشيوعي مع سقوط الاتحاد السوفييتي، أو ما سميت إمبراطورية الشر، بدأت تتخلق بصورة تدريجية بوادر منافساتٍ دوليةٍ من نوع جديد، وربما أكثر تعقيداً من صراعات الحرب الباردة، وربما كان الاتحاد السوفييتي قوةً كابحةً للغرب الليبرالي، ومن ذلك توجهه من التخفيف من غلواء اقتصاد السوق وإعطاء دور للدولة في الرعاية الاجتماعية والصحية وحماية الفقراء.
كان للأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبها المحافظون الجدد، تحت تأثير الأجندة الإسرائيلية، وفي إطار مسعاهم إلى تدشين ما أسموه القرن الأميركي الجديد، بالغ الأثر على موقع الولايات المتحدة في الساحة الدولية وصورتهم العامة في مختلف القارات. كان احتلال أفغانستان سنة 2001، ثم العراق سنة 2003، بمثابة ورطة تاريخية كبرى استنزفت قواهم العسكرية، وحتى المالية، في منطقةٍ لا تمثل خطراً جدّياً من الناحية الاستراتيجية، وكان ذلك متزامناً مع استفزاز الحلفاء أنفسهم على نحو ما بدا ذلك من لغة رامسفيلد، وزير دفاع بوش الابن، الذي صنف أوروبا ما بين قديمة وجديدة. وقد وفّر هذا الوضع للصينيين فرصة ذهبية لمراكمة مكاسبهم العسكرية والاقتصادية التي انتزعوها منذ بداية مرحلة الانفتاح مع دونغ سيو بينغ أواخر سبعينيات القرن الماضي، كما أعطى فرصة للروس في حقبة بوتين، لالتقاط أنفاسهم وإعادة ضبط مجالهم الحيوي في الاتحاد السوفييتي المفكّك، ثم التوسع إلى ما هو أبعد من ذلك.
ولعلّ أكبر التحديات التي تواجه الغرب اليوم، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، صعود حداثة صينية تبدو، في صورتها العامة، بمثابة مزيج مركب من السلطوية السياسية "المهذّبة" مع امتلاك قدرات عسكرية ضخمة وإمكانات علمية كبيرة إلى جانب ثقل ديموغرافي غير مسبوق. وما يزيد من تعقيد الوضع أكثر في العلاقة بالصين أنّ خيارات الغرب إزاءها تبدو صعبة ومحدودة. الدخول معها في حربٍ لن يكون نزهة قصيرة أو مضمونة العواقب، سواء من الناحية الاقتصادية أم من الناحية العسكرية الاستراتيجية. أما الاستمرار في سياسة احتوائها ضمن المنظومة الدولية على نحو ما تسير عليه الأمور خلال العقدين الأخيرين فلا يعني شيئاً سوى مزيد من إعطاء الوقت للصين، لتعزيز وضعها الاستراتيجي وربح مساحاتٍ أوسع في مجال الانتشار العالمي والتموقع أكثر داخل المؤسسات الدولية.
تسير روسيا بوتين بخطىً واثقة نحو استعادة مواقعها المفقودة في المجال الذي ورثته عن الاتحاد السوفييتي
بيّنت تجربة العقود الأخيرة أنّ الصين تتحرّك وفق رؤية ثابتة، وعلى هدي مرحلية مدروسة. وهي اليوم بصدد بناء مشروعها الانتشاري الخاص، ومن ذلك بناء قدراتها العسكرية الضخمة في بحر الصين وجنوب شرق آسيا، ثم انخراطها المكثف والدؤوب في مدّ شبكة اقتصادية وتجارية ولوجستية موازية في إطار ما عرف بخط الحزام والطريق.
على الجهة الأخرى، تسير روسيا بوتين بخطىً واثقة نحو استعادة مواقعها المفقودة في المجال الذي ورثته عن الاتحاد السوفييتي، وهي مصرّة على ضم ما تعتبره مجالاً حيوياً لها بقوة الجيش، على نحو ما رأينا ذلك في ضم شبه جزيرة القرم سنة 2014، والانتشار العسكري اليوم على حدود أوكرانيا إلى جانب التدخل في سورية وليبيا، على الرغم من الضربة الالتفافية التي تلقتها روسيا بوتين في فنائها الخلفي بانفجار الأوضاع في كازاخستان ضد النظام السلطوي المدعوم من موسكو.
وعلى الرغم من أنّ روسيا "الجديدة" لا تمثل ثقلاً عسكرياً واقتصادياً يوازي سلفها الاتحاد السوفييتي، فمن المعروف أنّ روسيا، وكما هو معهود منذ عهد القياصرة، تزاحم القوى الغربية بقوة السلاح والصناعات العسكرية، وليس بقدراتها الاقتصادية أو المالية التي تعتبر ضعيفة مقارنة حتى بالدول الأوروبية متوسطة الحجم.
الاكتشافات العلمية والابتكارات التقنية أتاحت للقوى الأوروبية امتلاك زمام المبادرة لإخضاع شعوبٍ كبيرةٍ وقارّات واسعة من العالم
واحدة من النتائج المباشرة لشيوع الحداثة الغربية، بقوة الجيوش والتوسّع الرأسمالي والتأثير الثقافي خلال القرون الثلاثة الأخيرة، تثبيت طابعها المركزي والاحتكاري إلى حد بعيد. كانت نشأة الحداثة، في البداية، مقترنة بالطابعين، التحكيمي والمركزي، على الصعد، السياسي والعسكري الثقافي، بحكم ما صاحبها من تملّك لأدوات القوة والفعل في عالم الطبيعة والبشر مع توجهات تبشيرية أنوارية في إطار أيديولوجيا التقدم، فالاكتشافات العلمية والابتكارات التقنية المتزامنة مع مغامرة الاستكشاف التجاري والتوسع العسكري، والمصحوبة باندفاعات تنويرية لنشر الحضارة والتقدم، أتاحت للقوى الأوروبية امتلاك زمام المبادرة لإخضاع شعوبٍ كبيرةٍ وقارّات واسعة من العالم من دون أن تُواجه تحدّيات تذكر، فقد أفرز اكتشاف الطباعة والتلغراف والهاتف والاصطرلاب، ثم المقذوفات النارية، وبعد ذلك ظهور الثورة الصناعية، فرقاً هائلاً بين المراكز الأوروبية الكبرى، المسلحة بالعلوم والتقانة والمستقوية بالجيوش المهنية المدرّبة وبالأيديولوجيا المهمة التمدينية، وهوة واسعة مع بقية قارّات العالم وشعوبها التي كان يغلب عليها الطابع الزراعي والنمط التقليدي للاجتماع. هذا ما مكّن بضعة آلاف من الجنود البريطانيين المدرّبين عصرياً، مثلاً، من السيطرة على بلدٍ شاسع وكثير السكان، مثل الهند، وقس على ذلك استحواذ هولندا على إندونيسيا، وفرنسا على بلدان أفريقيا واحتلال البلجيك الكونغو والإنكليز والقوى الغربية أجزاء من الصين الكبرى وغيرها.
كانت الحداثة في طورها الأول نادي امتياز مغلقاً، يتكون من قلة قليلة من الدول الأوروبية، ثم توسّع نطاق هذه الحداثة نسبياً باتجاه أميركا الأطلسية وبعض المستعمرات التي استوطنها الأوروبيون، مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا في إطار ما سيوصف لاحقاً بالغرب، وهذا ما أسّس ثنائية الغرب مقابل الآخرين، مع وجود سرديات ومقولات ومفاهيم تعزّز هذه المركزية الغربية. بيد أنّ الحداثة فقدت، بصورة تدريجية ومتوالية، طابعها الاحتكاري والمركزي، ليس بسبب قرارٍ إرادي اتخذته القوى الكبرى بالتخلي عن سيطرتها وتحكميتها المركزية، لكنّ لأنّ صيرورة الحداثة نفسها ووفق منطقها الخاص، صنعت وضعاً عالمياً فكّك مركزية الغرب.
النظام الدولي يتجه اليوم نحو تعدّدية المراكز والقوى، بما يشبه نظام القرن التاسع عشر الذي كانت تتزاحم فيه قوى أوروبية متعدّدة
المعطى الجديد الذي نشهده اليوم ليس بالضرورة تراجع الغرب، أو حتى ضعفه وذهاب ريحه، بقدر ما يعود الأمر إلى صعود قوى دولية أخرى، قادرة على المنافسة والمزاحمة من دون أن يفقد الغرب حضوره الفاعل، فمع انتشار التحديث على نطاق واسع، وبكلّ مظاهره، ومن ذلك التوسّع التمديني (التمركز الحضري) وانتشار التعليم والقدرة على اكتساب العلوم والتقنيات، ثم التمرّس بالتصنيع، فقدت القوى الغربية مركزيتها الخاصة، ومن ثم غدا بمقدور قوى كبرى، وحتى متوسطة الحجم، المزاحمة في اكتساب مقوّمات هذه الحداثة ومراكمة عوامل القوة والثروة، على نحو ما نرى اليوم مع الصين والهند وكوريا الجنوبية وتايوان وتركيا وماليزيا وإندونيسيا وحتى كوريا الشمالية وإيران وغيرها.
سبق للفيلسوف الإنكليزي، جون غراي، أن بيّن أنّ التحديث التقني والعلمي لم يعد حكراً على الغرب، كما أنّ اكتساب هذا المنجز لا يمرّ حتماً عبر البوابة الليبرالية، كما أنّه لا يؤدّي، بالضرورة، إلى النهاية الليبرالية السعيدة، على نحو ما تبشّر به أدبيات التحديث، فهذه العملية جرت وتجري داخل منظومات سياسية وخلفيات ثقافية مختلفة. بل إنّ سلطويات كثيرة تظهر اليوم قدرات متزايدة على اكتساب العلوم والتقنيات بكل أشكالها، خصوصاً العسكري منها، على نحو ما نرى ذلك في الصين وكوريا الشمالية وروسيا بوتين وإيران وبيلاروسيا وغيرها، من دون أن يؤشّر ذلك على السير نحو الوجهة الليبرالية.
من الواضح أنّ النظام الدولي يتجه اليوم نحو تعدّدية المراكز والقوى، بما يشبه نظام القرن التاسع عشر الذي كانت تتزاحم فيه قوى أوروبية متعدّدة، من دون أن ترجح كفة أيّ من منها بصورة كاملة. الأرجح هنا أنّنا لا نسير من نظام هيمنة أميركي نحو نظام هيمنة صيني أو هندي أو روسي أو غيره، بل باتجاه تجاوز مفهوم القوة العظمى المهيمنة، لصالح تعدّد القوى الدولية والإقليمية بما يشبه المجرّات المتعدّدة والمتحرّكة بصورة متوازية. لا نتحدّث هنا عن تعدّدية الأقطاب الدولية، فهذه باتت حقيقة بديهية، بل تشكل ملامح نظام دولي أكثر تعقيداً وتشعباً من ذلك، يمكن وصفه بنظام اللاقطبية أصلاً، بمعنى تعدّد المراكز الدولية وحتى الإقليمية، من دون أن تكون هناك هيمنة واضحة لأيّ قوةٍ من هذه القوى.