من بدّد بايدن وهرس كامالا هاريس؟
وسط فيض متلاطم الأمواج، في بحر التحليلات والتوقّعات والتعليقات المتباينة بشأن مغزى فوز دونالد ترامب الكاسح في الانتخابات الرئاسية الأميركية، تودّ هذه المطالعة تكثيف الضوء في واحدٍ من أبعاد هذا المشهد المثير للهواجس والتحسّبات والمشاعر المختلطة، سواء داخل أميركا أو خارجها، وذلك لكثرة ما تشي به عودة الرئيس السابق من ممكناتٍ وتحوّلاتٍ وافتراضاتٍ مصحوبة بسلسلة طويلة من علامات استفهام وتعجّب، لا حصر لها، تخاطب شعوب العالم ودوله، بما في ذلك دول (وشعوب) هذه المنطقة رخوة القوام، هشّة العظام، شديدة الانكشاف أمام مختلف التقلّبات والتحوّلات والمتغيّرات الدولية.
ولعلّ السؤال المشفوع بالترقّب في العنوان أعلاه، يوجز ما تودّ هذه المساهمة تقصّيه من أجوبة تقبل النقاش وتدعو إلى إثرائه، لأنه السؤال المطروح، ليس على طبقة الكتّاب والمثقفين العرب فقط، المخاطبين بهذه الانعطافة المحتملة في سياسات الدولة العظمى الوحيدة، تحت قيادة ترامب الثاني، وإنما أيضاً على النُخَب الفكرية والمحلّلين في فضاء الكرة الأرضية، ونعني به التساؤل الحارّ: من بدّد إرث نصف قرن من حياة جو بايدن السياسية هذا التبديد كلّه، هكذا في غضون آخر عام من ولايته اليتيمة، ومن هرس (سحق) شخصية نائبته كامالا هاريس هرساً كاملاً، في نحو لم يُبقِ لها ولم يذر، بهذه القسوة كلّها؟
لا أحسب أن أحداً من المتسبّبين (وهم كثرٌ في كلّ حال) بتبديد إرث بايدن من دون أن يتركَ له بصمةً خاصّةً (سيناتوراً ونائب رئيس ثمّ رئيساً) وأنهى أربع سنوات من عهده الباهت بالفشل، أكثر من جو بايدن نفسه، وليس هناك أيضاً من هرس شخصية نائبة السيّد الرئيس هرساً ساحقاً ماحقاً أكثر من كامالا ذاتها، ومن ثمّة، على جو وكامالا، قبول الدعوة من دون تردّد (بالإذن من أمّ كلثوم) لفعل الندم وبوس القدم على الغلط بحقّ الغنم، كما أن عليهما معاً ألّا يتذرعا بالعلل، أو بالبحث عن مبرّرات واهية، على قاعدة "لو أن التضخمّ، لو أن الإعلام، لو أن الحزب، لكانت النتيجة غير شِكل" من دون أن ينفي ذلك، بطبيعة الحال، وجود عواملَ موضوعيةٍ وذاتيةٍ صلبةٍ، واعتبارات داخلية شتّى، أسهمت من دون ريب في الوصول إلى هذه النتيجة المتوقّعة.
غير ان الإضافة التي يمكن وضعها في صدارة هذه المقاربة التأملية، وتركيز الضوء فيها بصورة كثيفة، ماثلة في حقيقة أن العامل الخارجي كان حاضراً في لعبة الانتخابات الرئاسية هذه المرّة، سيّما حرب الإبادة الجماعية على غزّة، التي شارك فيها بايدن بكلّ ما في وسعه، وسكتت عنها كامالا هاريس سكوت "الفريق أول أبو الهول". وبالتالي، كان لغزّة صوت مسموع في صناديق الاقتراع للمرّة الأولى، وكان لها قسط وافر في صنع هذه الهزيمة الساحقة لإدارة الصهيوني الكبير (كما يُحبّ أن يُعرّف عن نفسه) ولنائبته المعتصمة بالصمت المدوّي، المفتقرة لروح الزعامة وحسّ الأمومة، بل ورهافة الضمير الإنساني، حين تجاهلت أهوال المذبحة، وأغمضت بصرها عن الأشلاء الممزّقة، من دون أن تشعر يوماً بوخزة ضمير، أو يندى جبينها بحبّة عرق مالحة.
معلوم أن جملةً معتبرةً من الحقائق والمتغيّرات والاعتبارات الداخلية الأميركية المحضة، قد تضافرت معاً لتحقيق هذه الهزيمة الساحقة، ليس لكامالا هاريس وحدها، وإنما أيضاً لكلّ من بايدن والحزب والإدارة بكل مركّباتها، ومعلوم أيضاً أن أداء الحملة الانتخابية لنائبة الرئيس لم تكن موفّقةً، إلّا أن ذلك كلّه لا يحجب حقيقة أن الحراك الطلابي والمظاهرات الجماهيرية المندّدة بحرب الإبادة على غزّة، ناهيك عن الانقسامات في الحزب الديمقراطي، قد أسهمت بقسط وازن في تحقيق هذه السابقة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية.
إذا كان صحيحاً أن الأولويات الاقتصادية للناخب الأميركي تتقدّم كلّ ما عداها من مسائل خارجية، وأن جماعات الضغط الصهيونية قادرة على إنجاح المتنافسين الموالين لإسرائيل، فإن من الصحيح أيضاً أن تغاضي جو بايدن، ليس عن المقتلة الرهيبة فحسب، وإنما أيضاً تغاضيه المفرط عن الصفعات المتتالية الموجّهة له تباعاً من ناكر الجميل بنيامين نتنياهو، قد غيّرت المزاج داخل الحزب الحاكم، وأوغرت صدر الجيل الصاعد، بمن فيهم طلبة الجامعات المرموقة، ناهيك عن الناخبين العرب والمسلمين وغيرهم من المؤيدين للقضية الفلسطينية، وأنتج بدوره هذه السابقة، التي أدّت في نهاية مطاف قصير إلى هرس كامالا هاريس.