من رابعة العدوية إلى رابعة العربية
لقد تمدّدت "رابعة"، واتسعت لتتجاوز ذلك الميدان الصغير في القاهرة، لتنتقل على يد صانعيها إلى أماكن أخرى، فتأخذ معها لعنة الدماء، تطارد مرتكبيها، وتهزمهم وتعرّيهم أمام العالم، فتنقلب عليهم عاصفتهم في اليمن، وتجعلهم يتسوّلون الحماية من مليشيا صغيرة تذيقهم الهوان كل يوم، وتجعل منهم مسخرة العالم.
نعم، في البدء كانت مجزرة رابعة، لتأتي بعدها مجازرهم ضد أطفال اليمن، ثم جريمتهم في القنصلية، حين نفذوا عملية تصفية الشهيد جمال خاشقجي، وليس انتهاء بتصفية الرئيس الشهيد محمد مرسي.
انظر إلى حصادهم بعد كل هذه السنوات، لن تجد سوى الخيبة والفشل والإهانة، لينتهي بهم الأمر ضروعًا يحلبها الأوغاد كلما جاعوا، ثم يهبطون إلى مستوياتٍ سحيقةٍ من التدني في تسول رضا الصهيوني، عبر الوفود المسيرة إلى القدس المحتلة، أو عبر حوارات الأثير على ألسنة مكلفة باستجداء التطبيع، على نحوٍ بات يثير سخرية العدو نفسه من هذه الهرولة الفاضحة.
لقد تصوّروا أن جريمة رابعة، فكراً وتنفيذاً وسلوكاً، تصلح لأن تكون أحد مرتكزات الحلف العربي الصهيوني الجديد، سلاحاً مشهراً طوال الوقت للإخضاع والسيطرة... فكانت رابعة حاضرة في حصار قطر، حين هدّدها رعاة المجزرة بمصير معتصمي رابعة العدوية، إن لم تذعن لتهديدات دول الحصار وضغوطها، كما أنها حضرت في الحرب الاقتصادية التي يشنها المحور ذاته (واشنطن وتل أبيب والتوابع الخليجية) على تركيا، واستحضروها في عملية خاشقجي، وفي حملتهم الحمقاء على شعب اليمن، فلم يحصدوا إلا عار الهزائم السياسية والأخلاقية، وباتوا، في نظر العالم، مجموعة من الأوغاد، يسهل ابتزازهم واستعمار قرارهم السياسي، ليصيروا في نهاية المطاف أدوات رخيصة في صراع القوى الكبرى.
على مستوى الأفراد في الداخل، كانت رابعة، وما زالت، فاضحة لتوحش الفاشيين الذين يعيشون بيننا، والذين يظلون أوفياء لفاشيتهم بعد ست سنوات من الدم، فيخرج أحد غلاتهم، في الذكرى السادسة، محرّضًا على إبادة من بقي على قيد الحياة من الإخوان، فيغرد إبراهيم عيسى محرضًا "العائلات الإخوانية أخطر من الخلايا الإرهابية. الخلية تستلم عناصرها شبابا بينما الأسرة تربي طفلها منعزلا عن بلده، ومكفرا مجتمعه، ويرى في نفسه المسلم الحق، بينما خارج الجماعة كفرة، فلا يجد عندما يكبر أي مشكلة أن يقتل ويفخخ وينسف وسط تكبير عائلته لشهيدهم القاتل".
وكأن ست سنوات ليست كافية لكي تروي عطشهم للدماء، على الرغم مما لحق بعتاة المحرّضين من مهانة على يد السلطة التي استعملتهم غطاء لتنفيذ مذبحتها الأكبر.
تحتفظ ذاكرة الدم بما خطّه إبراهيم عيسى بيده، ونشره متعجلًا تنفيذ المذبحة، حين كتب بكل يقين وثقة تحت عنوان "طاعة السيسي من الشريعة الإسلامية"، ويقول مفصلًا "ما رأيك أن الشريعة الإسلامية تفرض فض اعتصامَى رابعة والنهضة، بل والاعتذار عن كل ما بدر منهم للفريق أول عبد الفتاح السيسى والتسليم له (وليس لخريطة المستقبل بالقيادة).
في ذلك المقال، يتاجر عيسى بالدين أبشع ما تكون التجارة، حين يستدعي من أرشيف الطغيان والاستبداد نصوصًا تهلل وتصفق لجريمة إراقة الدم، فينقل سطورًا من دراسة تفوح منها رائحة الدم ما يلي: "ففي طبقات الحنابلة (1/244) نَصٌّ للإمام أحمد به بيان أن "الإمارة تنعقد بالغَلَبَة كما تنعقد بالرضا.. يشمل ما إذا تغلَّب الحاكم بسيفه أو بسيف غيره، وسواءً كان هذا الغير مسلما أو كافرا". ثم يجزم "فبموجب هذا النص الشرعى "بسيفه أو بسيف غيره" يعتبر الشارع حتى تولية المستشار عدلى منصور رئيسا مؤقتا من صميم اختصاصات الفريق السيسى ومن سلطاته!
أكرّر هنا ما قلته بعد الجريمة: كانت رابعة هي الموقف التي استسلم فيه الجميع لفكرة الحياة من دون ضمير، ولو لوقتٍ مستقطع، بعضهم خوفاً، وبعضهم طمعاً، وجلهم من باب الانتهازية، وصاروا قنّاصة، مثل تلك المجموعات التي تمركزت أعلى البنايات المطلة على الاعتصام، وصبت رصاصها على النساء والأطفال والرجال والشيوخ، لينتهي الأمر بأن الدماء طالت الكل الذي ضغط على الزناد، والذي حرّض بالقلم، والذي قصف بالميكروفون، والذي صمت، رعباً، والذي رقص انتشاءً، والذي صفق إيثاراً للسلامة، فتحول الوطن إلى بحيرة دماء، لم تجف حتى الآن.