من فيهما محمد منير؟
إنها نعمة النهايات المحترمة، يا عزيزي.
أن تكابد الأهوال، وتعافر مع المرض والفقر وتشاغب، عن قناعة وبصدق، ضد الاستبداد، ثم ترحل.. فتلك هي الجائزة الكبرى، سمّها جائزة محمد منير إن شئت، أو قل هي مكافأة نهاية العمر، أو بعبارة واحدة: الباقيات الصالحات.
عرفت الحياة الثقافية المصرية، في فتراتٍ متعدّدة، انكسار كتاب وفنانين أمام محنة المرض، في لحظاتٍ بالغة الصعوبة، تجيد السلطة الحاكمة الانقضاض عليها، لتظهر بوجه إنساني مصنوع، فتمدّ يدها للإنقاذ، وسط تظاهرةٍ عارمةٍ يقودها رجالها في الإعلام، متحدّثين عن قلب الزعيم المرهف وإنسانيته الفياضة.
في زمن عبد الفتاح السيسي، أنت أمام صنفٍ مختلف من الاستبداد الوغد، هو استبداد يفترس ويقتل، ويغرس أنيابه في جسد ضحاياه المختارين، من دون أن يهتزّ له رمش، بل يحدث أن تقام حفلات وطنية صاخبة احتفالًا بالانتقام وانتشاء بالافتراس.
شيء من ذلك جرى في وقائع الموت المعلنة، لحظةً بلحظة، للزميل محمد منير الذي أتاحت له الميديا الجديدة أن يسجل تفاصيل عملية اغتياله لحظة بلحظة، ابتداءً من اقتحام قوات الأمن مسكنه، المسجلة بالصوت والصورة، مرورًا بندائه على الضمير الشعبي مستغيثًا من أن الأوغاد على بعد خطواتٍ منه لاختطافه وسجنه، ثم إعلانه ببسالةٍ أنه لن ينحني، ولن يشتري حريته وأمنه الشخصي بالنفاق، ثم أخيرًا إعلانه أنه يصارع الموت ويريد العلاج، بعد أن أصابته الوحوش الجائعة للدم بفيروس كورونا القاتل، في أثناء فترة حبسه.
كل هذه التراجيديا دارت على مرأى ومسمع من الجميع، فيما كان زعيم الأوغاد يواصل استعراضاته المبتذلة، واضعًا على وجهه ذلك القناع الإنساني الزائف، متحدثًا عن "الطبطبة والحنية والإنسانية"، تمامًا كما يليق بقاتل محترف يغسل يديه من دماء ضحاياه بماء الوضوء في المسجد.
وفاة محمد منير، الصحافي صاحب الـ 66 عامًا قضى أكثر من نصفها في صحافة اليسار، عندما كانت هناك صحافة وكان يسار. هي جريمة اغتيال نفذتها السلطة الحاكمة، مع سبق الإصرار والترصد، ونقلها الضحية/ الشهيد على الهواء مباشرةً إلى العالم كله، جريمة تجمعت فيها كل عناصر القمع والتنكيل، وتعمّد الإيذاء حتى الموت، وهي تعلم أنه يعاني من سلسلة من الأمراض المزمنة التي تجعل المساس به نوعًا من القتل المتعمد.
كل جريمة محمد منير، الذي كان يضع بجوار اسمه كلمة "مش"، لينفي عن نفسه أنه المغني ذائع الشهرة الذي يحمل الاسم ذاته، أنه يمتلك وجهة نظر ورأيًا في الوضع المأساوي في مصر، ويكتب على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي مواقع صحافية، ويتحدّث عبر الفضائيات، طارحًا انتقادات وحلولًا، مدليًا بدلوه في الشأن العام، من موقع المعارضة، رافضًا التصفيق والتهليل للفشل والظلم والبلادة.
كان منير يقول إنه "مش محمد منير"، حتى لا يظن الناس أنه ذلك المشهور، نجم الأجيال في عالم الغناء، غير أنه مع رحيله صار الأشهر والأقرب إلى الناس والأصدق تعبيرًا عن آلام الجماهير وأحلامها وأفراحها وأحزانها، وهو الذي لا يملك من حطام الدنيا سوى صفحة فيسبوك، يدون فيها آراءه، بعد أن أغلقت صحافة زمن السيسي الباب في وجهه، وهاتف جوّال يجري من خلاله مداخلات تلفزيونية.
صار هذا الـ"مشمحمد منير" هو الأقوى صيتًا والأجمل صوتًا من المطرب الذي شق طريقه نحو الشهرة والانتشار من سكّة اليسار أيضًا في سبعينات القرن الماضي، وكان يغني للنضال والمقاومة وللإنسان المطحون المقهور، ثم تبدّل وتحول وانتهى به الأمر مطربًا في حفلات الطغيان، مسجّلًا حضوره بوجهه الجديد في مؤتمر السيسي الأول بشرم الشيخ مارس/ آذار 2015 .
الذي مات هو محمد منير الحقيقي، فيما الذي يعيش بيننا هو الـ"مشمحمد منير"، وشتان الفرق وما أبعد المسافة بين الشخصين، وكما قلت حين رأيت نسخة منير المبتذلة في ملاهي مؤتمر مانحي السيسي، هي المسافة بين محمد منير الذي غنّى لسناء محيدلي والكفاح ضد الاحتلال الصهيوني ومحمد منير الذي يترنّح مفتوناً برقص فتاة "30 يونيو" على مسرح شرم الشيخ.
كتب شهيد الموقف محمد منير، قبل شهر من إعلان موته، وبعد القبض على صفحته، يقول: "سؤال ميثولوچي انثروبولوچي سرمدي .. هو أنا لو مت، وأنا على ذمة الحكومة حادفن في مقابر الأمن الوطني ولا الأمن المركزي".
لا تقلق، يا عزيزي، فمثلك يبقى حيًا في ذاكرة الأوطان التي تميز بين من يغني لها بصدق ومن يغني عليها.