من هافانا إلى دمشق... لا هواء ولا تغيير

18 سبتمبر 2024

إغناسيو رامونيه مع كتابه "مائة ساعة مع فيدل" في هافانا (19/5/2006 فرانس برس)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

يجول السفير الكوبي في دمشق، فيزور اتحاد الكتّاب العرب، ويدعو الأعضاء إلى التوقيع على رسالة وجهها الكاتب الإسباني الفرنسي، إغناسيو رامونيه، إلى الإدارة الأميركية، تطالبها برفع اسم كوبا من قائمة الدول الراعية للإرهاب. يبادر رئيس الاتحاد، محمد الحوراني، ليكون أول الموقعين. لكن السفير يطمع أكثر، ويدعو السوريين إلى ترجمة كتاب "مائة ساعة مع فيديل"، وهو "سِفرٌ" من 700 صفحة تضم حوارات أجراها رامونيه نفسه، مع زعيم الثورة الكوبية، واعتبرت بمثابة مذكّراته المروية.

لا يختلف عمل السفير الكوبي عن عمل أقرانه في دمشق، فقد تابعنا دائماً قيام الآخرين بنشاطات لافتة، كأن يوقّع سفير جنوب أفريقيا كتاباً له في مكتبة الأسد، وأن يحضر السفير الإيراني الأماسي الشعرية الداعمة لمحور الممانعة والمقاومة، وأن يزور سفير كوريا الشمالية وزير التموين والتجارة الداخلية، بهدف تقديم النصح والمشورة، في أساليب الالتفاف على العقوبات الدولية!. ولكن صنيع الكوبي يتميز بمواصفات خاصة هذه المرّة، إذ جاء إلى السوريين بحمولة "وطنية"، يريد منهم أن يشاركوه فيها، ليُظهروا، من خلال ذلك، تضامنهم مع بلده المحاصر، منذ عشرات السنين، فهو وحكومته لم يقصّرا مطلقاً في إعلان تبنّيهما ودعمهما سياسات النظام السوري. كما أن هافانا حاضرة ومستعدّة، دائماً، لإصدار بيانات الإدانة، لكل ما يمكن أن يحيق بالأسد، ما دام أنه يشاطرها العداء للإمبريالية الأميركية.

وفي المقابل، لا تتوقف المؤسّسات الرسمية السورية عن إظهار تضامنها الكامل مع كوبا، حتى إن الخطوة الأميركية، أي إعادة إدراج كوبا على قائمة الدول الراعية للإرهاب، حظيت بتنديد شديد، من أعضاء مجلس الشعب، ونالت بياناً خاصاً من وزارة الخارجية!. ليس الأمر روتينياً، بل هو تقليدٌ ثوري، يقوم على تضامن الدول التي تناصب الإمبريالية العداء، معاً. وتطول قائمة هذه الدول وتقصر، بموجب التحولات السياسية في هذه البلدان، لكن كوبا بقيت عشرات السنين في أعلى القائمة، من دون تغيير يذكر، سوى مبادرة الرئيس الأسبق أوباما في نهاية العام 2014، حين دعا إلى إلغاء العقوبات المفروضة من بلاده على الجزيرة الكاريبية، وزارها، لكن هذه المبادرة سرعان ما تبدّدت، مع قدوم دونالد ترامب الذي ألغى الاتفاق الأميركي الكوبي، بحجة أنه لا يخدم واشنطن. وقبل أسبوع من مغادرته البيت الأبيض، أعاد توصيف هذا البلد راعياً للإرهاب. لم يرق الأمرُ إغناسيو رامونيه، فكتب رسالة موجهة إلى الأميركيين، قال فيها "إن كوبا كانت من الدول الأكثر تعرّضاً لهجمات المنظمات الإرهابية، حيث قتل أكثر من 3500 كوبي في هجمات ارتكبتها مجموعات إرهابية تمولها وتسلحها وتدربها منظمات مقرها في الولايات المتحدة".

تقليد ثوري، يقوم على تضامن الدول التي تناصب الإمبريالية العداء، معا

رامونيه رئيس التحرير السابق لنشرة لوموند ديبلوماتيك الرصينة، يساري مشهور بين الأوساط الثورية في العالم، بوصفه كاتباً ينتمي إلى الغرب، ويعادي الإمبريالية الأميركية. ووفقاً لهذا، يتم الاستشهاد بأفكاره المستقاة من مقالاته، لكن أحداً لم يحاكم عمله الخاص بكاسترو، أي "كتاب مائة ساعة مع فيديل"... لماذا يجب التوقف عند هذا الكتاب؟ ببساطة، لأنه عمل دعائي، أكثر منه عملاً صحفياً، ففي الأعراف المهنية، يمكن للكاتب أو الصحافي أن يسعى إلى الحصول على مقابلة مع زعيم بلد ما، لكنه حين يسخِّر مئات الساعات من وقته، للجلوس مع كاسترو، وتسجيل تفاصيل حياته، يصبح الأمر مختلفاً... ألا يذكّرنا هذا بصنيع صحافي آخر، هو باتريك سيل الذي جالس حافظ الأسد، وخرج بكتاب عن حياته؟

إنه، هنا، يقدّم خدمة لمضيفه، ولا يخدم الصحافة، ولا يضيف إليها جديداً، إذ كان كاسترو يستطيع، كما غيره، أن يفرض نفسه وحياته وإنجازاته، على أهم صحافيي البلد الذي يحكمه، لكنه يختار الأجنبي الغربي، اليساري، ليبعث من خلاله رسالة، ليس إلى الحكومات الغربية فقط، بل إلى فئات مجتمعية في العالم، ستشعر بعلوّ شأوه، حين ترى، أنه ما زال، ورغم بلوغه من العمر عتياً، مادة صحافية مثيرة، تصلح للقراءة.

الخشية تأتي من العوامل المحلية، ومن الأخطاء الداخلية

في أوقات سالفة، على تلك الواقعة، لم يكن الزعيم الكوبي في حاجة إلى صحافيين أو كتّاب من هذا النوع، بل كانت الأمواج اليسارية تكفي وحدها، كي تحمل كل ما يمكن أن يخرج من كوبا، فقصتها، ولا سيما الجزء الخاص بصمودها في مواجهة الحصار الأميركي، كل هذا الوقت، إنما تجعلها أيقونة، تُعلق على جدران المواجهة بين اليسار وبين الإمبريالية!

لكن الأمر الذي يستحقّ أن يتوقف المرء عنده، لا يتعلق بأسباب تعطل عمل الموجات اليسارية، وعدم قدرتها على نقل أي شيء في هذا الوقت، بل يغوص أعمق، في السؤال؛ هل ما زال اليسار يساراً؟ وهل ما برحت الإمبريالية إمبرياليةً؟

بالعودة قليلاً إلى الوراء، يمكن اعتبار خطوة أوباما تراجعاً عن الوجه القبيح للهيمنة الأميركية، ورغم النكوص الذي أصابها، على يد ترامب، سيبقى لافتاً أن الرئيس بايدن، الديمقراطي الذي يستأنس برؤية أوباما، إن لم يكن يعمل بتوجيهاته، لم يتراجع عن خطوة سلفه، تجاه الحكم الشيوعي في هذا البلد، ولم يستجب إلى رسالة رامونيه!

ولكن في الوقت نفسه، لم يسأل أحد من المتضامنين مع كوبا، ضد الحصار الجائر عليه عما فعله حكامها، من أجل تحسين الحياة السياسية والاقتصادية لمواطنيهم، وهل قام النظام الحاكم بانفراجة ما، صوب الديمقراطية، لشعب يستحق، كما الشعوب الأخرى، أن يحظى بحياة سياسية تعددية، بدلاً من أن يبقى محكوماً من قبل حزب وحيد، هو الحزب الشيوعي، منذ عام 1959؟ أول الأشخاص الذين كان عليهم أن يسعوا إلى إجابة حقيقية، عن هذا الأمر هو رامونيه، الذي سأل كاسترو في ختام كتابه، عن مصير المسار الثوري في الجزيرة، فكان الجواب باستحالة نجاح الأميركيين في تدمير الثورة، لأن الكوبيين سيحملون السلاح ضد الأعداء، لكن الخشية تأتي من العوامل المحلية، ومن الأخطاء الداخلية.

هافانا حاضرة ومستعدّة، دائماً، لإصدار بيانات الإدانة، لكل ما يمكن أن يحيق بالأسد، ما دام أنه يشاطرها العداء للإمبريالية الأميركية

في الواقع، ورغم أن الرجل قد رحل، ورغم أن أخاه راؤول، الذي حكم البلاد من بعده، عقداً، قد استقال من منصبه، تاركاً السلطة لآخرين من الحزب ذاته، لكنّ شيئاً لم يتغير، إذ باسم الثورة، ما زال هؤلاء يطبقون السياسات ذاتها، ولا يُجرون أي تغييرات، تخص حياة مواطنيهم، وفي الآن نفسه، يريدون من العالم الخارجي، أن يغير سياسته تجاههم، وبالتوازي مع هذا النهج، لا يغيرون رؤيتهم تجاه البلدان التي يعتبرونها حليفة لهم، وفي الحالة السورية، لا يريدون أن يروا، أن ثمة ثورة قد وقعت في هذا البلد، وأن النظام قد ارتكب مذابح ضد شعبه، بل يكفي أنه ما زال معادياً للأميركيين، كي يظل حليفاً، وكفى اليساريين شر القتال!

السفير الكوبي في دمشق موظف صغير في إدارة بلده، ويمكن تصور حركته في دمشق، كذلك الرجل الذي كان يأتي طاولات المثقفين، في المقاهي، ليطلب منهم التوقيع على بيانات يسارية، فيقبل بعض، ويرفض بعضهم الآخر، ثم يُنسى، كأي عابر تراه، وأنت تشرب الشاي أو القهوة، ثم تلتفت إلى من يجالسك.

وربما لا يمكن لصورة رامونيه، وهو يكتب المقالات اليسارية، المليئة بتحليلات ترى نصف الحقائق فقط، تجاه الأنظمة التي ترفع الشعارات الطنانة، أن تختلف كثيراً عن هذا الشكل، ما دام أنه يمكن تسويغ كل الرداءات، بحجة الانتماء إلى اليسار، وإعلان العداء للإمبريالية.