من هم أقذر البشر حقاً؟
مات، أخيرا، عمّو حاجي، وانتشر خبر موته سريعا في الإعلام العالمي تحت عنوان غريب ولافت "موت أقذر رجل في العالم". لم أكن قد سمعت بهذا الاسم من قبل، لكن العنوان اللافت في خبر موته جعلني ألجأ إلى "غوغل"، لأفاجأ بأن اسمه يحتل محرّكات البحث على الشبكة العنكبوتية العالمية، بمعدّل زيارات مدهش للحقيقة، فغالبا لم يسمع به من قبل إلا قلة قليلة. وغالبا، استطاع العنوان المستفزّ لخبر موته جذب انتباه الناس إليه لمعرفة قصته كما حدث معي.
عاش عمّو حاجي معظم حياته الطويلة على أطراف قرية في محافظة فارس في إيران. يقول أهل المنطقة إنه أصيب في شبابه بصدمةٍ عاطفيةٍ عزلته عن حياة البشر، حتى بنى له جيرانه كوخا ترابيا صغيرا وقضى فيه وقته، ولم يتعامل مع أي بشريٍّ خلال تلك الفترة إلا من بعيد. كان طعامه لحوم الحيوانات النافقة، واللطيف أنه اخترع غليونا من ماسورة معدنيه كان يضع فيها فضلات الحيوانات ويشعلها ويدخنها. وطبعا، كما يقول خبر موته، لم يستحم خمسين عاما، لم يقترب الماء من جلده، ولا شفرات الحلاقة. شكله (حسب الصور على غوغل) شخصٌ بأنفٍ ضخم وتتراكم عليه طبقاتٌ من الوسخ. وكان يعتقد أنه إذا استحمّ سوف يمرض ويموت. لهذا تجنّب طويلا محاولات أهل قريته لتنظيفه، حتى رضخ أخيرا فاستحم، وتم كشط الوسخ عن جلده، ثم لم تمض أيام قليلة حتى أصيب بالمرض الذي لم يعرفه طيلة حياته، وظلّ مريضا حتى مات عن 94 عاما.
عاش عمّو حاجي حياته كما لو أنه يعود بالإنسان إلى أصوله الأولى، حيث كان البشري يعيش في البرّية، يأكل ما يجده أمامه ليبقى على قيد الحياة، قبل اكتشاف الزراعة وكل ما تعلق بها من تطوّرات غيّرت من شكل الحياة ونوعيتها، وغيّرت من سلوك البشر في التعامل معها.
ظلت البشرية زمنا طويلا جدا لا تعرف الاستحمام، حتى، على ما يبدو من التاريخ، ظهرت هذه العادة زمن المصريين القدماء، ثم انتشرت منهم نحو الحواضر القريبة. ولا نعلم كيف كانت عادة الاستحمام بالنسبة للرحّل والبدو والرعاة في الصحراء العربية وغيرها، حيث يشحّ الماء في أماكن كثيرة، وهو ما أوجب التيمّم بدل الوضوء لدى المسلمين. لكن المسلمين في الأندلس بنوا حمّاماتٍ شهيرةً دمّر معظمها الجيش القشتالي الذي قضى على بقايا الدولة الاموية في الأندلس. أما أوروبا في العصور الوسطى فقد كانت عادة الاستحمام فيها تتم في مناسبتين فقط: الزواج والمرض، (حسب ساندرو موراي في كتابه "اعترافات بورجوازي"، وهو كتاب يؤرّخ لتاريخ الوساخة في أوروبا العصور الوسطى)، ويقال إن اختراع العطور جرى للقضاء على رائحة أجساد الفرنسيين الذين كانوا يعتقدون أن الاستحمام يجلب الأمراض، ويجعل الجلد البشري هشّا وقابلا للتعرّض للإصابات. وهو ما يستعيده اليوم بعض مشاهير "هوليوود"، حيث يعبّرون عن رفضهم الاستحمام أكثر من مرّة واحدة كل عشرة أيام، بذريعة أن الماء والصابون يمنعان الجسد من إفراز الزيوت الخاصة به.
يتأقلم الجسد البشري مع الظرف المحيط به، هذا ما يمكننا استنتاجه من كل ما سبق، وهو في هذا يشبه أجساد الحيوانات والكائنات الحية الأخرى؛ مفردات الطبيعة على ما يبدو مصمّمة كي تقاوم وتتأقلم وتعيش وتستمر، وإلا لانتهت الحياة منذ زمن على الكوكب، مع المتغيرات الهائلة التي حدثت فيه على مرّ التاريخ، أو المكتشف منه. ورغم أن اختراع اللقاحات قلّل من عدد ضحايا الأمراض، لكنه، في الوقت نفسه، غير من المناعة الطبيعية للجسم البشري. ومع ذلك، ما زالت الكائنات الحية، وأولها البشر، تقاوم الأمراض والأوبئة، وتتأقلم مناعيا مع ظروف البيئة المحيطة، سواء كانت بيئة معقمة أم متروكة على هواها.
نادرا ما يموت أحدٌ من شدة الوسخ أو من الأكل غير النظيف أو من قلة الاستحمام. يموت البشر لأسبابٍ كثيرة أخرى، تتصدّر الحروب والجوع في عصرنا الحالي أولها. وبمناسبة الحديث عن أقذر رجل في العالم كما أطلقت عليه الصحافة، فإن في لقبٍ كهذا تنمّرا وازدراء كثيرين لشخصٍ لم يؤذ أحدا في حياته، بينما يُعامل مسبّبو الحروب والموت الجماعي والمجاعات وخراب الكوكب بوصفهم سادة كوكب الأرض، وهم الأجدر حقا بلقب أقذر مخلوقات الكوكب.