من يريد قتل آني إرنو؟
في خطابها الذي ألقته في استوكهولم، يوم السبت الماضي، أمام الأكاديمية السويدية بمناسبة تسلّمها جائزة نوبل للآداب عن عام 2022، قالت الكاتبة الفرنسية، آني إرنو، ما يمكن إيجازه بفكرتين أساسيتين. تتعلق الأولى ببحثها عن كيفية بدء خطابها وإيجاد الجملة الأولى التي وقع عليها اختيارُها، وكانت قد كتبتها منذ ستين عاما في دفتر يومياتها، حين كانت في العشرين من عمرها "سوف أكتب لأنتقم لجنسي". وكلمة جنس لا ترجع هنا إلى كونها امرأة فحسب، وإنما أيضا إلى انتمائها إلى طبقة اجتماعية دنيا، هي طبقة الفلاحين غير الملاكين والعمّال والأجراء والناس البسطاء، الأميين منهم وغير المثقفين. أما الثانية فتمثّلها خاتمة الخطاب، حيث قالت إنها إذا ما عادت إلى ذلك العهد، "فلست أدري إن كنت قد حقّقتُه. لقد استمددت من طبقتي ومن أسلافي الذين شقوا في أعمالٍ جعلتهم يموتون باكرا، رجالا ونساءً، ما يكفي من القوة والغضب لامتلاك الرغبة والطموح بإيجاد مكانٍ لهم في الأدب، ضمن مجموعة الأصوات المتعدّدة التي رافقتني بشكل مبكّر جدا، وأتاحت لي ولوج عوالم وأفكار أخرى، بما فيها تلك الخاصة بتمرّدي عليها ورغبتي بتغييرها. وذلك من أجل إدراج صوتي امرأةً ومنشقّةً اجتماعيا، في ما مثّل دوما مكانا للتحرّر، أي الأدب".
وفي هاتين الفكرتين، يكمن ربما السبب الذي يجعل الأديبة الثمانينية تتعرّض، منذ إعلان فوزها في 6 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي لجائزة نوبل للآداب، لما يشبه عملية رجمٍ وقتلٍ معنوي من أترابها وزملائها من ذوي الأسماء المكرّسة والمهيمنة في المشهد الثقافي الفرنسي، فيما تدافع عنها قلّة قليلة من الكتّاب، ومن بينهم الحائزة أخيرا على جائزة غونكور الفرنسية هذا العام، بريجيت جيرو، التي أشارت، في معرض الردّ على المتهجّمين على إرنو، إلى أهمّية أعمالها وكتابتها التي "تساعد على تفكير الواقع من أجل تحمّله". هذا ويرى معظم المنتقدين والمهاجمين أن ما تكتبه إرنو ليس أدبا، بل هو وصف مسطّح ومكرّر لحياتها اليومية، متجاهلين أن أعمالها تُقرأ في مختلف أنحاء العالم، وأنها تُدرَّس في جامعات إنكليزية وأميركية منذ بداية التسعينيات، وبشكل متزايد بعد ترجمة كتابها "السنوات" إلى الإنكليزية عام 2018، ومثوله ضمن ترشيحات القائمة النهائية لجائزة مان بوكر المرموقة عالميا.
وبينما أعلنت الأكاديمية السويدية تتويجها من أجل "شجاعتها والحدّة السريرية" لأعمالها، عنونت صحيفة لوفيغارو "ماذا لو كان أدبها سيئا"؟، معيدةً نشر مقالة ساخرة كان قد كتبها فريدريك بيغبيديه عام 2016 حيث تهكّم قائلا: "في نصف قرن، كتبت آني إرنو بالتوالي عن أبيها، أمّها، عشيقها، عملية إجهاضها، مرض والدتها، حدادها، السوبرماركت، انفصالها عن حبيبها في المخيم الصيفي، إلخ"..
أما إذاعة "فرانس كولتور" المعتبرة مرجعا في الإعلام الفرنسيّ الثقافيّ، فقد خصّصت برنامجها الشهير "ريبليك" (26 نوفمبر) الذي يعدّه ويقدّمه الفيلسوف والكاتب ألان فينكلكروت (المعروف بكراهيته المسلمين والأجانب) لرجم الكاتبة الفرنسية، متّهما إياها بالعقوق تجاه الدولة التي وفرت لها التعليم والترقي اجتماعيا، ومنتهيا مع ضيفه الكاتب بيار أسولين، إلى انتقاد رؤيتها الثنائية إلى العالم، حيث العلاقات الاجتماعية محصورة بالصراع بين المهيمِنين والمهيمَن عليهم، بدليل انتقادها نظرة بروست الطبقية الفوقية إلى من يسمّيهم خَدَمه.
والحال أنّ الهجمات وعمليات الرجم والقتل المعنويّ التي تعرّضت لها آني إرنو إثر فوزها بجائزة نوبل قد ظهّرت بوضوح ازدواجية المشهد الثقافي المهيمِن في فرنسا ورجعيته، حيث يشكّل المستوى الاجتماعي شرطًا للاعتراف بالشرعية الثقافية. ففي النهاية، تبقى إرنو، في نظر هؤلاء، امرأةً ذات أصول متواضعة، تمرّدت على المؤسّسة التي صنعتها، حين استخدمت ضدّها ما اكتسبته منها من أدوات معرفية مكّنتها من تفكيك العنف الكامن في العلاقات الاجتماعية، كما يُمارَس على الجسد والمشاعر والمعيش اليومي.