15 نوفمبر 2024
من يوميّات سحر طه
كتابٌ في التذكّر والنّجوى واللّوعة، في الحزن والحنين، وأيضا في رثاء شيءٍ كثيرٍ من العراق. .. هذا بعض ما يمكن أن يوصَف به كتاب "مقامات بغدادية.. من يوميات الاحتلال الأميركي في العراق" (رياض الريس للكتب والنشر، 2006) للعراقية سحر طه التي غادرت الدنيا الأسبوع الماضي عن 61 عاما، والتي عُرفت موسيقيةً، ومغنيةً في الموروث العراقي، وعازفةً على العود، وصاحبة صوتٍ جميلٍ وشجيّ. عملت صحافية بعض السنوات في بيروت، وهي اللبنانية الجنسيّة، وفي الأثناء، آنست حاجةً لأن تُفضي بما في وجدانها مما لم تقدر على بثّه في إيقاعات العود، وفي الألحان والأنغام، فكتبت ما كتبت من خواطر وتأملاتٍ وأفكار، جاءت عفو الخاطر حقّا، وذلك على وقع أيام الغزو الأميركي لبلدها الذي داومت على زيارة أهلها وناسها فيه، منذ غادرته في 1980. وحسنا صنعت أنها ضمّت مقالاتها تلك في كتابها هذا (لها كتاب ثانٍ عن مغنين عراقيين)، فجاء شهادةً على أسى امرأةٍ عراقيةٍ، مسكونةٍ بالفقد. وكأنها، لمّا سمّته "مقامات بغدادية .."، لم تقدِر أن تتحرّر من إيقاعات الموسيقى التي تُقيم في جوانحها. ولمّا تصدّرت غلافَ هذا الكتاب، الذي يستحقّ وصفَ لغته باللطافة، صورةُ كاتبتِه تحتضن عودَها، بدا الأمر دالا على أن القارئ سيتهادى مع سلالم مقاماتٍ ترتحل به إلى مشاعر متنوّعة، الحزن والخسران والحب والتّفجع والقلق والتوتر والانتظار والترقب و...، كيف لا والعراق تحت القصف والضرب المهول، وناسُه، وهم ناسُ الكاتبة وأهلُها، يتوسّلون نجاةً من الموت، إذا منّ الله عليهم بها.
ليست موسيقى سحر طه وحدها ما جاء إلى بال صاحب هذه الكلمات، ساعة ذاع نبأ وفاتها بعد صراعٍ مع السرطان، وإنما أيضا كتابُها الشائق هذا، والذي لا يُغادر ذاكرتك بعد سنواتٍ من قراءته، ربما لما اشتمل عليه من فائض المشاعر الصادقة، والطّلْقة الحرّة المحبّة التي توفّقت الكاتبة في سردها. ومن كثيرٍ لا يُنسى فيه شجرة التوت التي لم تجد سحر طه لها أثرا في حديقةٍ لم تعد موجودةً في بيتٍ بناه أبوها الشاعر المعتزل، سنواتٍ قبل أن يبيعَه لظروفٍ عبر بها، زارتْه الكاتبة أياما قبل بدء الحرب الغازية، أملا في أن تتسلّح بشيءٍ من ماضٍ غاب ولم يعد، تستأنس منه قوةً تُسعفها في احتمال أهوال الراهن الثقيلة.. لا شجرة التوت باقيةٌ، ولا العراق استطاع أن ينجو من اقتلاع حاضره وماضيه. هكذا في وسعك أن تقرأ المُصاب الذي ألمّ بالفنانة الرهيفة، وهي تغادر ذلك البيت، بسرعةٍ، ودمعتان تحجّرتا في عينيْها.
ذلك هناك في العراق، عند زيارته. أما في خارجه، فهو مبذولٌ على شاشات التلفزات، متروكٌ للاتصالات الهاتفية، المتقطّعة، والصعبة، في غضون موتٍ رجيم يريدُه الغازي المحتل لهذا البلد. تُتابع سحر طه الحرب، وأحوال أمّها وإخوتها وأهلها، في الأعظمية في بغداد، القلق الكثير يتضاعف عندما ترى قدّامها على التلفزيون الحيَّ الذي يقيم فيه أهلها، يسوّيه الغازي بالأرض. مات كثيرون، ونجا بعض أهلها ومعارفها وجيرانها. وكانت قد كتبت أن العراقيين لم يعودوا يروْن في الملاجئ أمكنةً آمنة، لفداحة ما تركته فيهم فاجعة ملجأ العامرية في حربٍ عدوانيةٍ سابقة (زاره كاتب هذه السطور في يومٍ لا يُنسى).. هذا واحدٌ من مقاطع اللحظة الحارّة الخاصة، في "مقامات بغدادية.."، من يوميات شهر آذار الذي مرّ ثقيلا بطيئا، تُتبعه الكاتبة بمقاطع أخرى، آثرت فيها ارتحالا في الذاكرة، إلى أيامٍ بعيدة، في زياراتٍ للمراقد في النجف، وفي أثناء مواسم عاشوراء، وهناك حيث بيت الجد، والحوش الذي فيه يستأثر بوصفٍ كثير، وهو الذي كان يشهد مجالس أفراح وأتراح. وبكيفيةٍ كولاجية، أشبه بمونتاج السينما، تُحدِث الكاتبة انتقالا من النجف إلى النبطية، من العراق إلى لبنان، من طقوسٍ عاشورائية هناك إلى أخرى هنا.
ليس كتابا عن حربٍ وقعت في العراق إذن، وإنما عن لوعة حبٍّ وحنينٍ إلى بلدٍ، بدا أن سحر طه آثرت رثاءَه، وهي تشاهدُه على التلفزيون يُسرق ويقتل، وهي تستدعي كتاباتٍ لمؤرخين قدامى عن احتلال الإنكليز له، وهي تسترسلُ في كتابة انطباعاتِها، العجولة أحيانا، والهادئة البطيئة أحيانا أخرى، وهي تستدعي أخاها الذي غاب سنواتٍ في الحرب مع إيران، وتستدعي أيضا لحظات بهجةٍ آفلةٍ كانت لها هناك .. ثم غابت، كما شجرة التوت التي اقتُعلت من الروح.
ليست موسيقى سحر طه وحدها ما جاء إلى بال صاحب هذه الكلمات، ساعة ذاع نبأ وفاتها بعد صراعٍ مع السرطان، وإنما أيضا كتابُها الشائق هذا، والذي لا يُغادر ذاكرتك بعد سنواتٍ من قراءته، ربما لما اشتمل عليه من فائض المشاعر الصادقة، والطّلْقة الحرّة المحبّة التي توفّقت الكاتبة في سردها. ومن كثيرٍ لا يُنسى فيه شجرة التوت التي لم تجد سحر طه لها أثرا في حديقةٍ لم تعد موجودةً في بيتٍ بناه أبوها الشاعر المعتزل، سنواتٍ قبل أن يبيعَه لظروفٍ عبر بها، زارتْه الكاتبة أياما قبل بدء الحرب الغازية، أملا في أن تتسلّح بشيءٍ من ماضٍ غاب ولم يعد، تستأنس منه قوةً تُسعفها في احتمال أهوال الراهن الثقيلة.. لا شجرة التوت باقيةٌ، ولا العراق استطاع أن ينجو من اقتلاع حاضره وماضيه. هكذا في وسعك أن تقرأ المُصاب الذي ألمّ بالفنانة الرهيفة، وهي تغادر ذلك البيت، بسرعةٍ، ودمعتان تحجّرتا في عينيْها.
ذلك هناك في العراق، عند زيارته. أما في خارجه، فهو مبذولٌ على شاشات التلفزات، متروكٌ للاتصالات الهاتفية، المتقطّعة، والصعبة، في غضون موتٍ رجيم يريدُه الغازي المحتل لهذا البلد. تُتابع سحر طه الحرب، وأحوال أمّها وإخوتها وأهلها، في الأعظمية في بغداد، القلق الكثير يتضاعف عندما ترى قدّامها على التلفزيون الحيَّ الذي يقيم فيه أهلها، يسوّيه الغازي بالأرض. مات كثيرون، ونجا بعض أهلها ومعارفها وجيرانها. وكانت قد كتبت أن العراقيين لم يعودوا يروْن في الملاجئ أمكنةً آمنة، لفداحة ما تركته فيهم فاجعة ملجأ العامرية في حربٍ عدوانيةٍ سابقة (زاره كاتب هذه السطور في يومٍ لا يُنسى).. هذا واحدٌ من مقاطع اللحظة الحارّة الخاصة، في "مقامات بغدادية.."، من يوميات شهر آذار الذي مرّ ثقيلا بطيئا، تُتبعه الكاتبة بمقاطع أخرى، آثرت فيها ارتحالا في الذاكرة، إلى أيامٍ بعيدة، في زياراتٍ للمراقد في النجف، وفي أثناء مواسم عاشوراء، وهناك حيث بيت الجد، والحوش الذي فيه يستأثر بوصفٍ كثير، وهو الذي كان يشهد مجالس أفراح وأتراح. وبكيفيةٍ كولاجية، أشبه بمونتاج السينما، تُحدِث الكاتبة انتقالا من النجف إلى النبطية، من العراق إلى لبنان، من طقوسٍ عاشورائية هناك إلى أخرى هنا.
ليس كتابا عن حربٍ وقعت في العراق إذن، وإنما عن لوعة حبٍّ وحنينٍ إلى بلدٍ، بدا أن سحر طه آثرت رثاءَه، وهي تشاهدُه على التلفزيون يُسرق ويقتل، وهي تستدعي كتاباتٍ لمؤرخين قدامى عن احتلال الإنكليز له، وهي تسترسلُ في كتابة انطباعاتِها، العجولة أحيانا، والهادئة البطيئة أحيانا أخرى، وهي تستدعي أخاها الذي غاب سنواتٍ في الحرب مع إيران، وتستدعي أيضا لحظات بهجةٍ آفلةٍ كانت لها هناك .. ثم غابت، كما شجرة التوت التي اقتُعلت من الروح.