مهمّة حزب الله
تفاعل حزب الله سريعا مع أحداث 7 أكتوبر، فما إن شنت إسرائيل أول غاراتها على غزّة حتى بادر في فجر اليوم التالي إلى إطلاق مجموعة قذائفَ صاروخية على مزارع شبعا، المنطقة التي يعتبرها أراضي لبنانية تحتلها إسرائيل، فردّت الأخيرة بقصف مناطق حدودية وقرى تساند الحزب تقع على تخوم الحد الفاصل بين فلسطين المحتلة ولبنان. وبدا هذا التدخل السريع من حزب الله مدروسا بعناية، فالحزب يقصف مناطق يعتبرها لبنانية، ولا يرغب بالانغماس في الحرب التي بدأت مع وصول أخبار الهجوم الحمساوي غير المسبوق على غلاف غزّة. لم يتوقّف مسلسل التراشق المتبادل بين حزب الله وإسرائيل عند هذه الحدود، فقد استمرّ يوميا ومتواترا، وبشدّات مختلفة ترتفع وتنخفض، مع المحافظة على منطق الردّ والردّ المقابل بقوى نارّية شبه متعادلة، من دون أن يبدأ أي من الطرفين تصعيدا عنيفا يجرّ الطرف المقابل إلى مواجهةٍ أكبر تشترك فيها قوات ضخمة، أو نيران كثيفة تستمر فترات طويلة، وقد سقط قتلى من الطرفين جنودا ومدنيين. ولم يتأثر الموقف كثيرا مع تفاقم الوضع في غزّة، فقد دخلت القوات الإسرائيلية إلى القطاع، وتمركزت بأعداد كبيرة في الشمال، واستطاعت السيطرة على مستشفى الشفاء، لكن الحدود حافظت على زخم معتدل في القتال.
يمتلك حزب الله في سيرته الذاتية تاريخ تصادم مع إسرائيل، كان آخرها وأكثرها عنفا في العام 2006، في مواجهة شاملة نتجت عن حادث حدودي أصغر بكثير من حوادث 7 أكتوبر وهجوم حماس الكبير، فقد هاجم حزب الله وقتها عربتين إسرائيليتين وقتل ثلاثة جنود وأسر اثنين، أطلقت بعدها إسرائيل هجوما شاملا استمر 34 يوما انتهى بقرار مجلس الأمن 1701، الذي وضع ترتيبات لوجود حزب الله في الجنوب، وأفسح المجال للجيش اللبناني، ولكن سيطرة حزب الله على الحدود عادت تدريجيا على حساب الجيش اللبناني. أما المواجهات المباشرة بين الحزب وإسرائيل فتقلصت إلى أقصى حد، وقد كانت جهود حزب الله في الداخل أكثر وضوحا، خصوصا وأن الجيش السوري كان قد انسحب من لبنان قبل ذلك بعام، وظهر بوضوح نفوذ حزب الله السياسي بديلا عن السوريين، حيث أصبحت كلمته هي الراجحة في عمليات تشكيل الحكومات وانتخاب الرؤساء. وبسبب مواقف حزب الله تعطل تشكيل حكومات وترشيح رؤساء. والآن يعيش لبنان من دون رئيس جمهورية، وفي ظل حكومة تصريف أعمال، وفق شلل واضح للقدرات السياسية للبنان، ما يعود إلى حجم حزب الله الكبير في الشارع السياسي.
تأسّس حزب الله في ظروف الحرب الأهلية اللبنانية، وضمن مشروع إيران الواسع للمنطقة، حيث استفادت إيران من رخاوة الوضع في لبنان، واستثمرت في التعاون السوري لإنشاء الحزب ورعايته، ليكون ذراعا عسكريا وسياسيا في الداخل اللبناني. ولعب دوره هذا طوال الفترة الفاصلة منذ تشكيله، وبدا مناورا بارعا في التعامل مع إسرائيل، فاستطاع أن يحافظ على توازنٍ غير معلن ترتفع فيه درجة المواجهة وتنخفض بشكل مدروس ومبرمج، بحيث لا يفقد حزب الله موقعه السياسي والعسكري المميز في الداخل اللبناني. وقد أوجدت الحرب السورية دورا إضافيا له في الداخل السوري أدّاه بمهارة، استفاد منها أخيرا بتوسيع جبهته مع إسرائيل، لتشمل مناطق من الجنوب السوري بمساندة إيرانية. ومن المستبعد بعد هذا التاريخ الحافل أن يغامر بذلك كله في سبيل حرب تجري في غزّة ليست في صالحه. وتراشقه اليومي سواء ارتفعت حدّته أو انخفضت لن يرقى إلى مستوى مواجهة شاملة يفقد فيها الحزب نفسه، ويفقد موقعا متميّزا لمؤسّسيه، فما زال بحاجة لموقعه في الداخل، وهو الهدف الأساسي لتأسيسه، ولا يبدو من نية لتغييره أو تمديده الآن، ولا في أي فترة مقبلة.