ميدالية نمّور... أو تلك الشجرة التي تُغطّي الغابة
فرح الجزائريون بميدالية الرياضية كيليا نمّور في أولمبياد باريس، وهي فرحةٌ لا نريد التنغيص عليها بقدر ما نريد أن نُؤكّد من خلالها بعض ملاحظات خاصّة بالرياضة عموماً، و بالدروسِ المُستخلصةِ من عمل الرياضيَّة الدؤوب للتربّع على عرش تخصّصها، والتضحيات التي قام عليها نصرها، ما يمكّن من الاستنارة بها في مجالات عدّة، تعاني للأسف القصور وعدم الاعتناء، يمكن لو جرى لها ذلك أن تحصل الفرحة في تحقيق منجزاتٍ كثيرة، في مجالات السياسات العامَّة ذات الصلة بالمواطن الجزائري، وفي مشروع تبوُّء مكانةِ القوَّة الإقليمية.
ننطلق من مشروع بناء البطلة كيليا نمّور، وفق ما صرّحت به والدتُها، وما قالته نمّور نفسها، بعد حصولها على الميدالية الذهبية، وهو مشروع طويل النفس، يتأسّس وجوباً على تخطيط مُحكم، وعلى مواردَ ماليَّةٍ وكفاءاتٍ، إضافة إلى اعتناء عالي المستوى في مدى أعوام، وصلت في حالة كيليا إلى ثمانية أعوام، بقصد الوصول إلى القمّة؛ اكتساب التنافسية والمستوى العالي، ثمّ التفكير في الحصول على ألقاب؛ بمعنى أنّ اللقب الأولمبي، على غرار أيّ سياسة عامَّة، ثمرةُ النجاح فيها هو تلك الدورة من الفكرة إلى اقتناص اللقب، يحتاج فيه من يتوخَّى النجاحَ العملَ وفق ثلاثية الكفاءة، والنجاعة، والرشادة، لأنّها ثلاثيةُ الواقعية ومسار الوصول إلى الإنجازات.
لو كانت هناك إرادة للتعلم في الجزائر، لدفعت نحو مراجعة مُقاربة العمل والإدارة، فالمشكلة هي غياب ثلاثية الكفاءة، والرشادة، والنجاعة
بالمحاكاة، في مشاريع السياسات العامَّة برمَّتها، لا يمكن الوصول إلى الإنجازات بالجودة المطلوبة من دون المرور بتلك المراحل التي تمكّنت من خلالها نمّور من الحصول على الذهب الأولمبي، ليكون الأمر متَّصلاً بسياق كلّه أحكام، وكفاءة، ونجاعة، ورشادة، ومسار يتضمّن برنامجاً زمنياً مؤسّساً على توفير الموارد اللازمة، مع تحديدٍ للهدف، وتحملٍّ للمسؤولية لتقويم السياق والمسار إذا حدث خطأ، وذلك وارد على غرار ما وقع لنمّور، عندما أصيبت وعادت إلى لياقتها، ولكن مع تحدّي ضمّها إلى الفريق الفرنسي، وتسجيلها للتنافس في التظاهرات الدولية، وهو ما لم يقع، وأدَّى إلى تغيير الجنسية الرياضيّة من الفرنسية إلى الجزائرية، أي وضع استراتيجيةٍ/ مخطّطٍ إضافي يعوّض أيّ خسارةٍ متوقَّعةٍ ويحوّلها سياقاً ومساراً جديدَين يتضمَّنان العمل الأصلي بكلّ حذافيره، مع تغيير في بوصلة الوصول إلى الإنجاز فقط.
إذا كان الأمر في الرياضة مُتطلّبا لذلك كلّه، فإنّ ما يجب توفيره في السياسات العامّة يكاد يفوق ذلك، مع فارق أنّ المسار للوصول إلى الإنجاز هو ذاته متضمّن للإحكام، وللثلاثية المذكورة، إضافةً إلى الاهتمام، والاعتناء بالاستراتيجية، أي الهدف المطلوب.
لنأخذ مثالاً من واقع السياسة العامَّة في الجزائر، في هذه الصائفة، في الوقت الذي علَّمنا درسُ ذهبية نمّور ما يجب أن نقوم به، حتّى نحقّق أيّ انجاز، والمثال من أزمة النقل البحري، التي يُعاني منها المسافرون الجزائريون في هذه الأيام، في موانئ عدّة في الجنوب الأوروبي بسبب قصور في التخطيط، وعدم التعلّم من الدروس، أزمات عشنا مثلها في الأعوام الماضية بعكس ما تَعلَّمَته الخطوط الجوّية الجزائرية، التي عدنا نسمع عنها أخباراً جيّدة في التسيير في أسعار التذاكر، وفي احترام المواعيد، وفي استيعاب العدد الضخم من الرحلات وأعداد المسافرين، بعنوان العطلات الكبرى في أوروبا، وعودة مئات الآلاف من المغتربين الجزائريين.
تعاني شركةُ نقل المسافرين من طريق البحر مشكلَات كثيرةً، وأزماتٍ تعود كلّ صيف، بالرغم من محاولات استئجار بواخرَ وسفنٍ، وشراء سفنٍ جديدة في الأعوام القليلة الماضية، ولكنَّ بقاء الأزمات دليلٌ أنّ المشكلةَ تكمن في دورة السياسة العامَّة للنقل البحري، التي لا تعمل تأسيساً على الثلاثية المذكورة (الكفاءة، والرشادة، والنجاعة)، ولذلك رأينا أخيراً مثل ما حدث في مرّات سابقة؛ تأخّر بواخرَ عن رحلاتها، وإلغاء وبرمجة من دون كفاءة، إضافةً إلى تعطّل، بل قيام سلطات بعض الموانئ بحجز سفنٍ جزائريةٍ لأسباب كثيرة، وهو ما يُدلّل على أنّ القضية هي في غياب أيّ عقلانية في إدارة الشركة، وتكرار تلك الأزمات يُدلّل أيضاً على أنّ الدروس لم تُستخلص. وفي النتيجة، نحن بحاجة إلى استلهام دروس الرياضة هنا لعلاج إشكالية النقل، وربّما إدراك أنّ الأملَ يكمن في حكامة جديدة لمقاربة النقل البحري، بمرجعية الثلاثية المشار إليها، ومن دون ذلك، بقاء السياسة العامة للنقل في مشكلاتٍ لا نهاية لها، وما لذلك من تداعياتٍ على صورة البلاد في الخارج، عندما يواجه المسافرون تلك المشكلات، وتُضخّم الإشكاليات إعلامياً، وبخاصّة من خلال تفاعلات الشبكات الافتراضية، ووسائل التواصل الاجتماعية.
ما الذي يُؤزّم الوضع في النقل البحري بالرغم من الأزمات الماضية كلّها، التي كان من الممكن التعلّم منها، والبناء عليها، لتخطيطٍ وحوكمةٍ يأتيان على تلك المشاكل كلّها؟... ذلكم السؤال الذي جاءت الرياضيّة بميداليتها للإجابة عنه من خلال مسيرتها في ثمانية أعوامٍ، فتُوّجت بالميدالية، إضافةً إلى التحدّيات التي كان من شأنها أن تضع حدّاً لتألّق نمّور؛ بمعنى أنّ الشركة، في محاكاةٍ لمسار وسياق فوز الرياضيَّة بالذهب، مع تلك المشكلات في الأعوام الماضية، وبالرغم من سعي السلطات العمومية إلى تمكين إدارتها من الموارد المادّية والماليّة للتغلب على تلك المشكلات، إلّا أنّ الأزمات تعود المرّة بعد الأخرى في الشكل نفسه، وفي فترة الذروة نفسها، أي في الصيف وفي العطلات في أوروبا، وهذا يعني أنّ الدروسَ المُستفادةَ من المشاكل والأزمات، لو كانت هناك إرادة للتعلم، كان يجب أن تدفع نحو مراجعة مُقاربة العمل والإدارة، ذلك أنّ المشكلة الأساس في هذا النطاق هي غياب ثلاثية السياسة العامّة: الكفاءة، والرشادة، والنجاعة.
بالنتيجة، تكون الميدالية الذهبية التي فازت بها نمّور شجرةً تغطّي الغابة، ذلك أنّ المُقاربة ذاتها التي يتوخَّاها الرياضي ممّا سبق ذكره كلّه، ينسحب على مجالات السياسات العامَّة الأخرى، فلا نجاحَ أو منجزاتٍ من دون دورة السياسة العامَّة من تفكير، وبرمجة، وتخطيط، وتسخير مواردَ ماليّةٍ ومادّية، وتقييم وتقويم، وصولاً إلى الاستشراف والتعلّم. وكلّما كانت تلك الثلاثية جنباً إلى جنب مع تلك الدورة، نكون أقرب من التفكير العقلاني، ومن براغماتية التعامل مع تحدّيات الواقع، بقصد الحصول على نشوة النتائج، تماماً مثل التي رأيناها في أعين نمّور وطاقمها.
دعوةٌ إلى استلهام كلّ دورة نجاح، لأنّه لا يأتي من فراغ، فمعادلة لا عمل - لا جزاء قاعدةٌ في أيّ حركية إنسانية
الكتابة، مراراً وتكراراً في هذا الموضوع دعوةٌ إلى استلهام كلّ دورة نجاح في أيّ مجال كان، لأنّ النجاح لا يأتي من فراغ، فمعادلة لا عمل - لا جزاء تُعتبَر قاعدةً في أيّ حركية إنسانية، ولا معنى لأنّ تكون حاضرةً في الرياضة، التي هي أولاً وأخيراً مُجرَّد متعة، من دون أن تتمدَّد إلى غيرها من مجالات الحياة. ودليلُ هذا حصيلةُ الميداليات التي أشارت إليها جريدةٌ اقتصاديةٌ، في السابع من أغسطس/ آب الحالي، ربطت بين متغيّر التقدّم الاقتصادي، والحصول على الميداليات الذهبية، إذ توصلّت إلى أنّ الولايات المتّحدة والصين، الاقتصادَين الأكبرين عالمياً، في الصدارة، تليهما في المراتب العشر الأولى خمسة من البلدان المنتمية إلى مجموعة السبع الكبار (فرنسا، ألمانيا، اليابان، بريطانيا، إيطاليا)، بالإضافة إلى كلّ من كوريا الجنوبية وأستراليا، وهما من بين الاقتصاديات الأكبر في مجموعة العشرين، ما يُدلّل على أنّ متغيّر التقدّم الاقتصادي، الناتج من سياسات عامَّة بدورة السياق والمسار المشار إليهما، ومتغيّر النجاح في الحصول على ميداليات ذهبية في المنافسات العالمية، عاملان مُرتبطان، لأنّهما يُخضعان النشاطات كلّها للمتطلبات التنافسية كلّها، وبثلاثية الكفاءة، والرشادة، والنجاعة، ومنها الرياضة عالية المستوى، على غرار الرياضة الأولمبية، التي يُحضّر لها من المدرسة الابتدائية، كما قالت كيليا نمّور نفسها، وصولاً إلى التنافس الرياضي العالمي. وقد سمعنا كثيراً من المُدرّبين يتحدّثون عن الألعاب القادمة (لوس أنجليس الأميركية في العام 2028)، بقصد التحضير الجيّد للرياضيين للفوز بالميداليات، وللشعور بنشوة الإنجاز بعد التعب من التجهيز بالمعطيات الناجعة.
إنّها همسةٌ في آذان القائمين على السياسات العامَّة في الجزائر بأنّ الشجرة هي جزء من الغابة، وهي كما تزيّن الغابة قد تكون تغطّيها حتّى لا نرى جمال الأشجار والنباتات الأخرى، ومنه لا يمكن الاكتفاء بالنجاح في الرياضة، بل يجب التوسّع في دورة النجاح، وتطبيق المُقاربات ذاتها بالكفاءة ذاتها، بقصد الوصول يوماً إلى النتائج المرجوّة... ربّما.