نتنياهو والمعادلة المُستحيلة
قدَّم الرئيس الأميركي جو بايدن مُقترَحاً لإنهاء الحرب في غزّة من ثلاث مراحل، تتضمّن مرحلته الأولى إقرارَ هُدنة لستّة أسابيع، وإطلاقَ سراح دفعة أولى من المُحتجَزين الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية، في مقابل إطلاقِ سراح سجناء فلسطينيين لدى إسرائيل، وانسحاباً إسرائيلياً من المناطق المأهولة، وتمكينَ النازحين من العودة إلى منازلهم، وإدخالَ المساعدات الإنسانية إلى غزّة. بالتوازي مع ذلك، سيتفاوض الطرفان، الإسرائيلي والفلسطيني، على المرور إلى المرحلة الثانية، التي ستشهد وقفاً مُستداماً لإطلاق النار، وتبادل من تبقّى من الرهائن الأحياء، وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع، على أن تشهد المرحلة الثالثة وضعَ مُخطّط لإعادة إعمار قطاع غزّة.
يعكس المُقترَح مأزق الولايات المتّحدة وإسرائيل، على حدّ سواء. فالإدارة الأميركية تدرك أنّ استمرار الحرب بات مُكلفاً جدّاً، بعد أن أحدثت ارتجاجاً أخلاقياً وسياسياً في مختلف أنحاء العالم، ومَنْحها رئيسَ الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو هامشاً آخرَ لمواصلة الحرب سيكون مُجازفةً جيوسياسيةً يصعب التكهّن بمآلاتها بالنسبة إلى المصالح الأميركية، في ظلّ التحدّيات التي تواجهها واشنطن، باعتبارها أكبر فاعل في النظام الدولي. لقد وصلت العمليات العسكرية في غزّة إلى الطريق المسدود، بعد أن عجزت قوات الاحتلال عن تحقيق الأهداف التي ما فتئ يُؤكّد عليها نتنياهو منذ بداية العدوان، وعلى رأسها تحرير المُحتجَزين، والقضاء على حركة حماس. وفي وقتٍ كان يُتوقّع أن يُغيّر اجتياح مدينة رفح ميزان القوى لمصلحة قوّات الاحتلال، على اعتبار أنّ المدينة، وفق تقارير استخباراتية إسرائيلية، باتت آخرَ قلعةٍ للمقاومة بعد الضربات التي تلقّتها في شمال القطاع ووسطه، وجدت هذه القوّات نفسها تغرق في مستنقع حربٍ بلا أفقٍ، وتخسر مزيداً من الجنود والضبّاط، رغم سيطرتها على محور فيلادلفيا الحدودي مع مصر، الذي يُفترض، وفق المنظور الإسرائيلي، أنّه المنفذ الوحيد الذي يسمح للمقاومة بالحصول على السلاح والعتاد، وبمواصلة شنّ هجماتها على الجيش الإسرائيلي.
يتعلّق الأمر بقناعة أميركية تترسّخ داخل مُختلف مواقع صناعة القرار في واشنطن، بصعوبة القضاء على حركة حماس واجتثاث سلطتها في قطاع غزّة. فالحركة، وإن كانت قد تكبّدت خسائرَ وفقدت عدداً كبيراً من عناصرها، إلا أنّها ما تزال تملك القدرة على المناورة، وإعادة الانتشار على طريقة حرب العصابات، وهو ما أكّدته المواجهات الضارية، التي خاضتها قبل فترة في مخيم جباليا في شمال القطاع، الذي يُفترض، حسب الرواية الإسرائيلية، أنّ قوات الاحتلال قضت على معاقل المقاومة فيه. ما يعني أنّ الحركة نجحت في جرّ قوات الاحتلال إلى حرب استنزافٍ لا قِبل لها بتحمّل تكاليفها العسكرية والنفسية في المدى البعيد.
هناك تحوّل نسبي في الموقف الأميركي بشأن الحرب. صحيحٌ أنّه تحوّلٌ لا يُغيّر دعم واشنطن إسرائيل ولا منحها الغطاء السياسي والدبلوماسي لمواصلة جرائمها، لكنّه يتيح فرصةً لوقف الحرب وإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني. هذا التحوّل لا يرتبط، فقط، بصمود المقاومة وقدرتها على المناورة، بقدر ما يرتبط، أيضاً، بالعزلة المتزايدة لإسرائيل دولياً، خاصّة بعد قرارِ محكمة العدل الدولية بوقف اجتياح رفح، واعترافِ دول أوروبية بدولة فلسطين، واتساع رقعة المُظاهرات المُندّدة بالعدوان الإسرائيلي، والمُطالِبة بإنهاء الحرب.
في ضوء ما تقدّم، يجد نتنياهو نفسَه أمام معادلةٍ صعبةٍ، إن لم نقل مُستحيلةٍ. فمن جهة، استنفد معظم أوراقه مع الإدارة الأميركية، التي منحته الضوء الأخضر من أجل القضاء على "حماس" وتحرير المُحتجَزين، لكنّه لم يُخفق في ذلك فقط، بل أيضاً وضعها في موقف لا تُحسد عليه أمام رأيها العام، لا سيّما بعد دخول طلبة الجامعات على خطّ الاحتجاجات المناوئة للحرب. ومن جهة أخرى، يجد نفسه في مواجهة ضغوط داخلية على واجهتَين؛ ضغوط قطاع عريض من النُخب الإسرائيلية، داخل الأحزاب المُعتدلة والجيش والأمن وائتلاف عائلات المُحتجَزين، التي تطالبه بقبول مقترح بايدن وإبرام صفقة تضمن وقف إطلاق النار وتحرير المُحتجَزين؛ وضغوط من قبل شركائه، من اليمين المُتطرّف، في الائتلاف الحكومي، الذين لن يرحموه إذا ما وافق على صفقة لا تحقّق القضاء على "حماس" وتفكيك قدراتها، لأنّ في ذلك سقوطَ الائتلاف الحكومي ونهايةَ مشواره السياسي.