نحن والانتخابات التركية
أهم ما في معطيات مشهد الانتخابات الرئاسية التركية بعد أسبوع أن الشعب التركي صار سابقًا المتنافسين على رئاسته في النضج والوعي السياسيين، وأن المرشّحين الرئيسيين يدركان هذه الحقيقة جيدًا، ويكفي هذا منجزًا يدخل به الرئيس الحالي وتجربة حزبه السياسية خلال العقدين الماضيين التاريخ من أوسع أبوابه.
بلغت التجربة الديمقراطية التركية من التطوّر ما يجعل التقديرات الموضوعية تشير إلى أن فارسي السباق، الرئيس الحالي ومرشّح المعارضة، يحاربان من أجل أقل من 2% من الأصوات، هي الفرق بين فرصتي الاثنين في الانتصار، وهي حالةٌ سياسيةٌ شبيهة بما تجده في أعرق التجارب الديمقراطية في العالم.
في هذه الأجواء، يصارع الرئيس رجب طيب أردوغان، المرشّح عن حزب العدالة والتنمية (الحاكم) كليجدار أوغلو المدعوم من التحالف المعارض من أجل كسب ثقة تلك النسبة الحائرة من المصوّتين في أنهما أقدر على حماية الديمقراطية التركية، تلك التجربة التي ما كان لها أن تبقى وتتجذّر لولا أن هناك نظامًا سياسيًا قرّر أن يصونها ولا يضحّي بها لقاء مكاسب حزبية ضيقة، وهو المعطى الأهم الذي استقبله الشعب التركي بتقدير واحترام كامليْن، وهو ما تجلى في العام 2016، حين حمى هذا الشعب ديمقراطيته بجسده ودمه وأسقط انقلابًا عسكريًا كاد يبتلع النظام كله.
في ذلك الوقت، أثبت الشعب التركي أنه بلغ من النضج السياسي ما يؤهّله لممارسة حقوقه في الديمقراطية، والمناعة ضد تزييف إرادته والتلاعب به في عمليات الاقتراع والانتخاب، وأظهر تفوّقاً نادر المثال، في أصعب امتحان، حين وجد نفسَه في مواجهة الدبابة، فقرّر أن ينتفض دفاعاً عن نظام سياسي واجتماعي، كان على وشك السقوط، في انقلابٍ عسكريٍّ مدعوم من أطراف خارجية معروفة.
تلك البسالة الشعبية المذهلة في الذود عن مدنية الدولة، وديمقراطيتها، هي المدعوّة الآن لاختيار شكل مستقبل تركيا، مجسّدة مقولة "الشعب هو المعلم". وهنا الانتصار القومي الحقيقي، بغضّ النظر عن اسم المرشّح الفائز، وتوصيفه السياسي، إسلاميًا معتدلًا كان أم علمانيًا متعصّبًا، فالمهم هنا أن يدرك أنه سيكون رئيسًا على شعب أقوى من الحاكم، وأقدر على أن يدافع عن مكتسباته التاريخية.
تأكّدت علامات اكتمال نضج التجربة الديمقراطية التركية، مرًة أخرى قبل نحو أربعة أعوام، مع الصراع المحتدم في انتخابات بلدية إسطنبول، بين مرشّح الحزب الحاكم ومنافسه المعارض، وهو المشهد الذي نجح فيه الشعب والنظام بامتياز، وأظهرا عزمًا لا يلين على التمسّك بمحدّدات اللعبة الديمقراطية ومخرجاتها، إذ أعلنت اللجنة العليا للانتخابات فوز مرشّح المعارضة، ثم عادت وأعلنت إلغاء هذه النتيجة بعد تقدّم حزب العدالة والتنمية الحاكم بطعون، فتقرّرت إعادة الاقتراع، وفي الإعادة فاز مرشّح المعارضة مرة أخرى.
جرى ذلك كله من دون عنف أو تخوين أو اتهامات بالتزوير واللعب في النتائج، وذلك هو المكسب الأكبر: آلية ديمقراطية يحميها شعبٌ عرف قيمتها واختبر نفعها وأهميتها، ويحترمها نظام سياسي وصل من خلالها إلى السلطة، وعرف أنها اللغة الوحيدة المتحضّرة للصراع السياسي. والوضع كذلك، نستطيع أن نقول إنه صار هناك "النموذج التركي" للديمقراطية، الذي يدعو إلى الاحترام والتعلم، والحسرة على هزيمة الديمقراطية في الدول العربية التي حاولت شعوبُها السير على هذا الطريق قبل عشر سنوات، لكنها عوقبت أشد العقاب، بانقلاباتٍ غاشمة صفّق لها الذين كانوا ينظرون إلى نموذج تركيا بانبهار، ويحلمون باستنساخه في مصر، على نحو ما فعل مصطفى الفقي، أحد منظّري سلطة الانقلاب في مصر الآن. وقد كتب في العام 2011 مقالاً يقول فيه "الأمر يحتاج إلى قدر كبير من الشجاعة والإيمان بـ"المواطنة" والتطلّع إلى نظام برلماني يساعد كثيراً على فهم ما جرى في "تركيا" في السنوات الأخيرة، ونقل ما يناسبنا من تلك التجربة الرائعة، شريطة أن يكون لدينا من هم في مستوى أردوغان ورفاقه، فالأمر ليس سهلاً على الإطلاق، لكنني أكرّر مرة أخرى أن "النموذج التركي" يستهوينا، وقد يكون فيه بعض ما يناسبنا، وأنضم إلى المطالبين بالتفكير فيه والسعى نحوه على أن يكون الجيش حارساً للديمقراطية، حامياً للشرعية، فى إطار دستور جديد يتبنّى المبادئ العصرية والرؤى الحديثة والغايات التي تؤمن بالإنسان وحريته وتعلي من كرامته".
ولله في خلقه شؤون يا دكتور مصطفى!