نسوية لأجل الـ99% .. أكثر من "مانيفستو"
"شبحٌ ينتاب أوروبا...". بهذه العبارة الشهيرة ذات الأثر النفسي المدوي، بدأ "المانيفستو" الشيوعي الصادر عام 1847، والذي كتبه ماركس وإنجلز، ليتحوّل بعدها إلى إحدى أقوى الوثائق السياسية أثراً في التاريخ البشري، رغم صغر حجمه.
وبعد قرن ونصف القرن، تقدّم منظّراتٌ نسوياتٌ محاولة شبيهة، عبر كُتّيب "نسوية لأجل الـ 99%... مانيفستو لحركة اجتماعية جديدة" والذي سعى إلى بلورة تنظير وافٍ لما بات يعرف بالموجة النسوية الثالثة.
كانت الموجة النسوية الأولى الناشطة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين منصبّة أساساً نحو المساواة في حقوق التعليم والملكية والتصويت، ثم أتبعتها الموجة الثانية في ستينيات القرن الماضي التي توسّعت لمجالات التمييز غير الرسمي في الأجور، وبنية الأسرة التقليدية، والحرّيات الجنسية والإنجابية.
وبينما بدا بعد عقود أنّ ذلك الانتصار النسوي قد تحقّق أو كاد بالفعل، فإن مراجعاتٍ بدأت منذ التسعينيات تعيد النظر شمولياً للنتائج التي رأت أنّها انصبّت لصالح أقلية من النساء البيض من الطبقات العليا والوسطى، بينما تركت النساء الأفقر والملوّنات ينسحقن تحت آلة "النيوليبرالية" مع شركائهن الذكور.
تبدأ مقدمة الكتاب تحت عنوان قاطع "مفترق طرق"، حيث يبدأ فوراً بالتسفيه من تصريح أطلقته شيريل ساندبرج، مديرة العمليات في "فيسبوك"، أن العالم سيصبح أفضل، إذا أدارت النساء نصف دول العالم وشركاته. وترى مؤلفات الكتاب أن ما تريده ساندبرغ وهيلاري كلينتون ومثيلاتهما في حقيقته هو عالم يتوزع فيه عبء إدارة الاستغلال والقمع بين رجال الطبقة الحاكمة ونسائها، ثم "يُطلب من الناس العاديين، باسم النسوية، أن يشعروا بالامتنان، لأن من يقوّض نقاباتهم، أو يتحكّم في طائرة مسيّرة لتقتل آباءهم، أو يحبس أطفالهم في أقفاصٍ حديدية على الحدود، امرأة وليس رجلاً".
يعتبر هذا "المانيفستو" نفسَه موجّهاً ضد خصمين رئيسيين يشهدان صعوداً في عالمنا المعاصر، الأول الحركات الشعبوية اليمينية، التي تحاول، بشكل صريح، تحجيم مكتسبات نسوية واجتماعية، كالنزاع في قضايا الإجهاض وتمثيل الأقليات واستقبال المهاجرين، وذلك تحت ادّعاء الدفاع عن "الرجل العادي" المظلوم، كواجهة تختفي خلفها حركات عنصرية صاعدة بلغت ذروتها في محاولة مؤيدّي ترامب اقتحام الكونغرس. الخصم الثاني هو "النسوية الليبرالية"، والتي تعتبرها ناشطات الموجة الثالثة عقبة رئيسية أمام مشروعهم التحرّري. وفي مواجهة هذين الخصمين، يركز "المانيفستو" على دمج النسوية في إطار مشروع واسع للعودة إلى الروح الثورية الجذرية، حيث البحث عن بديلٍ شاملٍ للنظام العالمي سياسياً واقتصادياً.
يطرح الكتاب نماذج عديدة لتوضيح الفكرة، منها مناقشة نقدية لتجليات "النسوية القانونية"، فأيّ مكسبٍ حقيقيٍّ يمكن الحصول عليه من تقنين الإجهاض، إذا جرى ذلك في إطار سياسات خفض الانفاق العام الحادة على كلّ الخدمات الحكومية المجانية، إذ لن تصل غالبية النساء الأفقر إلى تلك الخدمة المكلفة مالياً.
تجمع مؤلفات الكتاب بين الخبرات النظرية والعملية النضالية، حيث الاسم الأشهر هو الأميركية نانسي فريزر، أستاذة الفلسفة والعلوم السياسية، ولها اسهاماتٌ اقتصاديةٌ بارزة حول البرجوازية وتطور مفهوم العدالة الاجتماعية. وبرفقتها أستاذة الفلسفة الأميركية تشينزيا أروتزا، والمؤرّخة النسوية الهندية تثي باتاتشاريا، وكلتاهما تحمل أرقى الشهادات الأكاديمية وكذلك من أبرز منظمات إضراب اليوم العالمي للنساء.
الكتاب متوفر باللغة العربية، من ترجمة الصديق المترجم المصري الواعد محمد رمضان، ومراجعة إلهام عيداروس، والتي تمثل نموذجاً عملياً للوارد في الكتاب، فهي مناضلة نسوية صريحة، ولا يتعارض ذلك مع كونها وكيلة مؤسّسي حزب العيش والحرية، اليساري المعارض، التي حلت مكان المرشّح الرئاسي السابق خالد علي.
أمام الناشطية النسوية الجديدة في بلادنا والعالم نضال طويل وصعب، لكنها تتمسّك بالأمل في إعادة اكتشاف فكرة المستحيل، وتطالب بالخبز والورود "الخبز الذي سلبته عقود النيوليبرالية من على موائدنا، وكذلك الجمال الذي يغذّي أرواحنا من خلال بهجة التمرّد".