نصرالله بين السياسة وصراع الحقّ والباطل
يبدأُ الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله خطابه، أخيرا في 22 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) بمحاضرة عن النبي محمد (ص). يُسهب في الحديث عن شيء من سيرة النبي، وما تركه من أثر في قومه وبيئته على الصعيدين، الثقافي والتشريعي. يستنجدُ نصرالله هنا بجاذبية شخصية النبي محمد لاستجلاب عواطف الحضور (وهذا فنٌّ يتقنه نصرالله جيدًا). يمضي الخطاب ثم تبدأ الإسقاطات التاريخية. يربط نصرالله بين صراع النبي محمد مع قريش بصراع السياسة الإقليمية اليوم انطلاقًا من القضية الفلسطينية مرورًا باليمن والبحرين والعراق وسورية وانتهاءً بلبنان.. كلّها تصوَّرُ في خطابه صراع الحق في وجه الباطل، صراعا يُلبسه نصرالله ثوبًا شِعريا مدجّجا بصوت خافت تارّة، وحادٍ مرتفع تارّة أخرى.
يبرعُ نصرالله في توظيف كاريزما القائد التي يمتلكها، خصوصًا في الظروف التي تعيشها بيئة حزب الله اليوم. نصرالله بالنسبة لهم هو الرجل "المُغيب" قلّ ما يراهُ الناس. لا يعرف أحدٌ مكانه، ويظهر من خلف الشاشة ليتصدّى للظروف القاسية التي تسوقها عناوين المناسبات التي يطلق خطاباته فيها. الكاريزما، في قاموس التراث الأميركي، صفةٌ شخصيةٌ نادرةٌ يتمتع بها القادة الذين يستطيعون إثارة الحماسة والولاء الشعبيين. يقول كيرت دبليو. مورتينسن في كتابه "قوانين الكاريزما" "إن الناس في زماننا هذا أصبحوا أقل ثقة وأكثر ميلًا إلى التشكك والنقد أكثر من أي وقت مضى. وأصبح الولاء للمؤسسة شيئًا من الماضي". وتدفع هذه العبارة إلى طرح استفهام جذري عن سرّ تمسك شطر كبير من الشعب اللبناني بنصرالله ومؤسسته، كيف تمكّن حسن نصرالله من تصوير صراع سياسي، بحجم الصراع الحاصل في الشرق الأوسط، كأنه صراع حق بوجه باطل.
يُصدر المرشد الأعلى فتوى الجهاد في أي قطر من أقطار العالم، فتصبح فتواه دليلاً قاطعا على صراع الحق بوجه الباطل
يطلبُ نصرالله من جمهوره نجدة المظلومين ونصرتهم، كما فعل رسول الله. يسأل جمهوره تأييد جماعة الحوثي في اليمن بحجّة "نصرة الشعوب"، ثم يتحدّث عن نصرة الحق بوجه الباطل في سورية، وهذه النصرة تتجلى بالنسبة لنصرالله في قتال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي فعل ما فعله بشعوب الأمة على اختلاف طوائفها. يُظهرُ نصرالله حزبه أنه وريث رسول الله في صراع الحق والباطل.
يؤمن الشيعة بعصمة النبي محمد وآل بيته، وجعلوا لهم خاصية لا يكتسبها أحد دونهم، حتّى ظهور روح الله الخميني وولاية الفقيه العامة. وضع الخميني منصب المرشد الأعلى في مكانة هي أقرب ما يكون إلى العصمة. يُصدر المرشد الأعلى فتوى الجهاد في أي قطر من أقطار العالم، فتصبح فتواه دليلاً قاطعا على صراع الحق بوجه الباطل. تميّز الخميني ووريثه خامنئي بالصورة الشخصية عينها، عمامة سوداء، لحية متروكة يعتليها الشيب، وظهور جاد في الخطابات. ورث نصرالله النمط "الإعلامي" عينه، وسُوّق له في الأناشيد والمناسبات الدينية، حتى ارتبط اسمه بالعقيدة عند بعض الشيعة في لبنان. يقول نصرالله في خطابه، أخيرا، إن الشعب اليمني يسيرُ خلف جماعة الحوثي لنصرة فلسطين، هذه إرادة الشعب اليمني في نظره. يقسم الصفّ اليمني الى قسمين: إمّا أن تسير خلف الحوثي أو أن تكون عميلًا خائنًا لا تُؤتمن. يحتكرُ نصر الله وحزبه المقاومة في لبنان. هل لفردٍ لبناني أن يكره إسرائيل ويكنّ لها العداء، ويكره حزب الله في آن معًا؟ يظهر جواب نصرالله، في خطاباته جليًا، العداء لإسرائيل يعني بالضرورة الولاء لنا..
يتوّج نصرالله نصرته الحق بمساندة أهل الباطل في لبنان
ثنائية الخيارات تظهرُ في سورية، يبشرُ نصرالله بشرِّ مسلحي "داعش" وإجرامهم، ويقول إنه زحف إلى سورية لدرء تطرّف "داعش" ودمويته عن لبنان، وأن الصراع الذي خاضه في سورية كان صراع حق وباطل: "داعش" أو النظام السوري، لا ثالث لهما. يجب السؤال هنا: من يحدّد الحق والباطل؟ لا يعرف أحد على وجه اليقين، لكن بعين نصرالله، إيران هي قسيمة الحق والباطل. ثورة الشعب السوري على نظام الأسد الذي توارثه الابن عن الأب منافيًا لكل أخلاقيات الرسول التي خرج نصرالله يحاضر بها: مؤامرة كونية على المقاومة. حراك اللبنانيين في الـ17 من أكتوبر/ تشرين الأول 2019على طبقةٍ سياسيةٍ فسادها أوضح من الشمس في رابعة النهار؟ مؤامرة كونية على المقاومة.
يتوّج نصرالله نصرته الحق بمساندة أهل الباطل في لبنان، يجدّد وزراؤه الولاء لحاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، الذي حمّله الشعب اللبناني مسؤولية ما وصلت إليه أحوالهم المالية. يأتمن حزب الله باسم الحق نجيب ميقاتي على رئاسة "حكومة الإنقاذ". ميقاتي الذي جاءت قضايا فساد جمّة في لبنان على اسمه. وجديد مواقف حزب الله في نصرة الحق كانت الوقوف بوجه المحقّق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار.
السياسة لا تُقاس بالدين، لكن الجماهير تُستجلبُ بعباءة الدين، مهما اختلف لون العمامة
يحدّد نصرالله الحق والباطل لجمهوره كيف يشاء ومتى يشاء. ودائمًا باسم "المقاومة". كالعادة، يختتم نصرالله كلامه برسالة إلى "الدولة"، وهي نوعٌ من الكذب المحنك. يتحدّث عن القضاء اللبناني ثم يهاجمه، يتحدّث عن الدولة وهو من مكوّناتها الأساسية، لا بل لعله المكون الأقوى فيها. تناقض نصرالله ليس مستغربا لأهل العلم. في نهاية الأمر، هو يعمل لصالحه كمليشيا مسلحة لا كجزء من دولة مؤسسات.
تنظرُ إيران إلى لبنان كصندوق بريد، وهو صندوق بريدها الآمن الذي لا تخترقه المؤامرات، لأنه يستمد مشروعيته من شطرٍ كبير من الشعب. يوجّه نصرالله رسالة تتمثل بـ"مائة ألف مقاتل"، أرادت إيران أن تعلم بهم إسرائيل نوعا من التحذير الاستباقي بوجه أي عملية عسكرية على المفاعلات النووية. يسعى حزب الله جاهدًا إلى الحفاظ على استقرار "صندوق البريد" هذا، من خلال رعاية الطبقة السياسية التي تُبعد عنه أكبر مخاوفه: عبور الطائفة. لا تريد إيران لبنان دولة قوية متمكّنة، لكنها ترفض أن يغوص في اقتتال داخلي، إذ لن تجازف بانشغال حزب الله فيه.
يبقى السؤال إسقاطاً معاكسا لما قدّمه نصرالله في خطاباته الأخيرة عن الحق والباطل: هل كان أحد المعصومين لينصر بشّار الأسد ورياض سلامة ونجيب ميقاتي، ويقف سدًا منيعا يحمي تَلوث الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان؟ والجواب أن السياسة لا تُقاس بالدين، لكن الجماهير تُستجلبُ بعباءة الدين، مهما اختلف لون العمامة.