نعم لنموذج بيروت... هروب الاحتلال وصعود المقاومة
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.
على أبواب اكتمال الشهر الثاني من العدوان على قطاع غزّة، يسرّب الجيش الإسرائيلي في ظل الهدن التي توشك على النفاد سيناريو بيروت، عبر صحيفة الوول ستريت جورنال. السيناريو سخيف بقدر ما هو إجرامي، فالتهجير الجماعي للمقاتلين وعوائلهم جريمة حرب، والفرق بين مجرمي الحرب التقليديين ونظرائهم الإسرائيليين أن الإسرائيلي يعلن نيّته ارتكاب الجريمة، مشفوعة بحصانة من المحاكمة وعفوٍ عما سبق.
يكرّس التسريب فشل العدوان أمنيا وعسكريا، ففي شمال القطاع الذي زعم جيش الاحتلال "تحريره" جرت عملية تسليم المحتجزين، ومقاتلو القسام بكامل قيافتهم، يرافقهم احتضان شعبي عبّر عنه هتاف الأطفال لكتائب القسّام، وكأنهم سوبرمان خرج من التلفزيون، أو قل جنود الفتح خرجوا من كتاب التاريخ. تريد إسرائيل تحميل هؤلاء المقاتلين الذين تبايعوا على الموت في سفن ونقلهم إلى (أين؟ لا تحدّد!). وفوق ذلك، قرّر الجيش تأسيس هيئة سعودية إماراتية لاستعادة غزّة، صحيح أن الإمارات مطبّعة، لكن المفروض أن لا توافق على هذه الهيئة التي تكلف مليارات، وفوق ذلك السعودية لم تطبّع، ومواقفها مساندة للشعب الفلسطيني.
دع عنك ثغاء الجيش الإسرائيلي الذي علّمه القسام دروسا لم يعرفها منذ 1948، فهذه غزّة التي سقطت في سويعات عام 1967، واعتقل في سيناء 12 ألف جندي مصري، ردّت في 7 أكتوبر (بعد أكثر من نصف قرن)، واقتحم 1200 مقاتل تبايعوا على الموت بروجها وحصونها التي كلّفت أكثر من مليار دولار، وبعد نحو شهرين ما زالوا على بأسهم وعهدهم.
لم يعرف التاريخ البشري مقاتلا بذكاء مقاتلي القسّام، وشجاعتهم ونزاهتهم وطهارتهم، من أكبرهم إلى أصغرهم. وما موقعة 7 أكتوبر إلا رأس جبل جليد يكشف بعض ما عندهم. محمد الضيف ويحيى السنوار وصحبهما يعيشون في الآخرة لا الدنيا. بحسب ما وصفهم الفيلسوف المغربي الصوفي طه عبد الرحمن، في محاورةٍ معه نشرت أخيرا، قسّم فيها العقول إلى ثلاثة "عقل مجرّد تعوقه الحدود، وعقل مسدد تدخله الآفات، وعقل مؤيد يسبح في الكمالات". وأضاف "هذا العقل مملوء إيماناً خالصاً، يتجاوز كل حدود المادة والأغراض، ويسمو كالملك لا تبقى معه معصية "نور على نور". ويصف هؤلاء المقاتلين "ما زالوا أنواراً تشعّ في الإنسانية كلها بالقيم التي فقدها الإنسان المعاصر، يكتشف فيها فطرته يوم أن أشهده الله على ربوبيّته، لتتجلى له في أجلى مظاهرها وأبهى صورها. إن هؤلاء المقاتلين ملكوتيون، فهِمَّتهم لا حدود لها زماناً ولا مكاناً، معلقة بالعرش، وهم تحت الظلّ الإلهي، يجتمعون على الله ويفترقون عليه".
لم يعرف التاريخ البشري مقاتلا بذكاء مقاتلي القسّام، وشجاعتهم ونزاهتهم وطهارتهم، من أكبرهم إلى أصغرهم
يتلقى المقاتل في قوات النخبة راتبا شهريا قدرُه مائة دولار، وهو راتب الأسرة الفقيرة التي تتلقّى مساعداتٍ في غزّة، وباقي القوات متطوعون يعملون مجّانا بلا مقابل، ويعملون مهندسين ومعلمين ومحاسبين ومهنيين. لك أن تتخيّل واحدا مثل الدكتور جمال الزبدة، الذي استشهد مع بكره أسامة في معركة سيف القدس، ترك الجامعات الأميركية ليعمل في تطوير صواريخ "حماس"، ويقدم نفسه وابنه في المعركة. يشعر الضيف أنه ضيف على الحياة بعد سبع محاولات اغتيال لم تترك شبرا من جسده إلا وفيه ندبة من صاروخ. ويشعر السنوار بأنه قبر في السجن 23 عاما، ولا ينتظر غير لقاء الله ومن سبقه على الدرب. هكذا يفكّرون، وهكذا يفكّر أطفال غزّة الذين ألفوا الموت حربا وحصارا، ولم يعد يخيفهم. لا يريدون الموت، لكن كما قال الكواكبي "أخشى ما يخشاه الطغاة أن تكون الحرية أثمن من الحياة".
يفضّلون الموت على الخروج من غزّة، لكنه ليس موتهم وحدَهم. سيشرب المحتلّون من الكأس نفسه، ولن يتعب مقاتل القسام الذي يتوق للالتحام مع العدو لكن جيش العدوّ يتعب، وداعموه يتعبون. بحسب المعلق العسكري لصحيفة معاريف "الحرب بإشراف أميركي"، وقد تعبت الولايات المتحدة من كلفتها التي تضرّ بايدن انتخابيا، وقد تكلفه موقعه. يكتب طال ليف رام "الحرب المختارة بإشراف أميركي: القتال في قطاع غزة سيستأنف، لكنه سيكون مختلفاً تماماً. ولم يتّضح بعد ما إذا كانت التهدئة الخاصة بعودة المختطفين ستستمر حتى الأسبوع المقبل، لكن الواضح أن القتال في قطاع غزّة سيستأنف وفق الحدود المرسومة وقواعد اللعبة الجديدة التي سيمليها الأميركيون".
لم يكن الفلسطيني، في بيروت، صاحب البيت. ولكن، ظهرت بعد إخراجه مقاومة أصحاب البيت ممثلة في المقاومة الوطنية، وبعدها حزب الله التي أذلت المحتلين، وولوا هاربين في غير موقعة. طبعا في بيروت كان صهاينة عرب، قوات مستعربين تدعم الصهاينة المحتلين بالقتال والسياسة، تماما كالصهاينة العرب والفلسطينيين. لك أن تعمل دراما تعيد إنتاج بشير الجميل وإيلي حبيقة وجيش لبنان الجنوبي فلسطينيا. تذكّرت هذه الحثالات عندما شاهدت ضابط مخابرات فلسطينياً يهتف "عسكر فتحاوي عسكر راس الحمساوي كسّر". طبعا ستُروَّج زعاماتٌ فلسطينيةُ صهيونية، لن يختلف مصيرها عن نظرائها اللبنانيين، ولا عن روابط القرى التي سبقتها فلسطينيا.
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.