نغم حيدر.. حكّاءة المعارك الخاسرة
لا تأتي نغم حيدر، الروائية السورية الشابة (1987)، موضوعا من حيث يُتوقّع لها أن تأتيه، بل إنها تبدو وكأنما نائية، في الشارع الخلفيّ الذي تظلّله العتمة، ويسوده الصمت ولا يروده محبّو الصّخب والاحتفالات. فمن يقرأ أعمالها الثلاثة "مُرّة" (2014)، "أعياد الشتاء" (2018)، وأخيرا "معارك خاسرة" (2022)، قد يظنّ أنها غيرُ معنيةٍ بما يدور حولها، ذلك أن الموضوعات "الشائعة" التي تصنعها الوقائع والأخبار المتعاقبة المتسارعة تبعدها مزيدا إلى دائرة الظل، هناك، حيث يحيا المنسيّون بأوجاعهم الخفيضة، ومعاركهم الخاسرة، وأعيادهم الباردة التي تزيد من شعورهم بالإقصاء والغربة.
في "مُرّة" (دار الآداب، بيروت)، تكتشف عزيزة أن نور، جارتها الشابة القاطنة في الشقّة المقابلة، والتي تعاملها مثل ابنة لها، ليست سوى ضرّتها التي اقترن بها زوجُها سعد الذي تحب. هل سيتغيّر شيءٌ في حياة عزيزة، فتنهار صراخا وتفجّعا واعتراضا و...؟ لا، ستستمر حياتها بسيطة، ربّة منزل تُعنى بزوجها، بيتها، أطفالها، والدتها المصابة بالزهايمر و... "ضرّتها". عزيزة التي تسمع همس الطعام في الطناجر، وترى أن "صبح العطر يتمشّى في ممرّات البيت"، وأن السكّر يستلقي بين أوراق الشاي لتهدأ، سوف تتغيّر تدريجيا من الداخل، كما ستتبدّل نظرتها إلى جسدها، أنوثتها، وشعورها بأنها باتت "مشطورةً إلى نصف امرأة مرتجف".
في "أعياد الشتاء" (دار نوفل، بيروت)، هناك بطلتان على طرفي نقيض، تجتمعان في غرفةٍ ضيقةٍ داخل مخيم لجوء في بلد أجنبي. فهناك شاهيناز، عشيقة ضابط الأمن الذي انتزع منها كل ما أنعم به عليها إثر مقتل ولده في كمين، وراوية التي خطف رجال الأمن والدها فاضطرت إلى الهجرة لإعالة والدتها وأخويها الصغيرين. هنا الحرب حاضرة، والحرب طاردة، أما الحياة الجديدة إذا صحّ التعبير، فلا شيء يربط الشخصيتين بها، باستثناء مطاردة الذكريات، وحرق الوقت، وبالتحديد من قبل شاهيناز التي تخرج إلى الشوارع ليلا، متندّمة على امتيازات أضاعتها "عاهرةً" قبل أن تنحدر إلى مستوى "لاجئة".
أخيرا، على غلاف "معارك خاسرة" (دار نوفل، بيروت)، نقرأ: "للآباء لونٌ واحدٌ وللأبناء ألوانٌ كثيرة. للآباء درّاجاتهم النارية وأيّامهم البطيئة، وللأبناء بقيّة الألوان والمستقبل الذي يركض أمامهم. مِن أسوار العائلة إلى أسوار المدينة، من السجن الصغير إلى ذلك الأكبر، يعلن كلٌّ من هؤلاء انتفاضته" .. وفي هذا إشارة إلى وجود قصص ثلاث، رأى الناشر ضرورة الربط بينها لتبرير تصنيف العمل في باب روايةٍ ربما، على الرغم من أنها نصوص ثلاثة لا يخفّف من قيمتها اجتماعُها، أو عدم اجتماعها، تحت مسمّى بعينه، وهو ما وقعت فيه الكاتبة أيضا في القصة الثانية إذ سعت، من دون لزوم، إلى ربطها بالأولى من خلال إدراج طيف "مي" فيها.
والحال، أن نغَم حيدر التي تختار، هذه المرّة، بداية الثورة في سورية فضاء زمنيا لنصوصها تلك، تصوّب، مرّة أخرى، على ما يجري خارج إطار الصورة، رابطة بين الهامش والمتن، الصراع الداخليّ بالخارجيّ، وشبح السلطة الأبوية بالسلطة السياسية. فها هي الابنة "مي"، الصحافية الثلاثينية التي تستعدّ للنزول والمشاركة في التظاهرات السائرة في شوارع دمشق، تصطدم مع والدتها التي تسدّ لها الباب لتمنعها من الخروج، خوفا عليها، قبل أن تطردها من المنزل لأنها "أمّ لا تُحتمِل"، وذلك قبل اصطياد الأمن الابنة باستخدام هاتف الوالدة. وها هو الحفّار بهاء الدين يتمرّد على صرامة والده وتزمّته وسطوته عليه، بعد اكتشافه ماضيه الشبابي، بحفر شاهدة قبره سرّا وإخفائها في خلفية الحانوت، في حين يقاوم العشريني فاضل، من خلال لعبة البلياردو وتقوية عضلات جسمه في النوادي وعبر الشجارات، هيمنة صورة أبيه، المثقف الشيوعي، الخارج من السجن بعد 13 عاما، والعائد إليه مع بدء المظاهرات ..
على قلة الأحداث واتخاذ الحدث ذريعةً لوصف التحوّلات العميقة التي تحياها الشخصيات، تبرز جملة نغَم حيدر أدبيّة، آسرةً، مضبوطة، لا يشوبها حشو أو ارتخاء، في حين يتأكّد صوتها الشاب مُحدثا ومميزا، وهو ما سيذكّر القارئَ التَّعِبَ من تكاثر نصوصٍ يسودها اللغو والاستسهال، أن الأدب إنما يبدأ من هنا.