نيرون الذي لا يني يُبعث حيّاً
هل يخطر لأيّ كان أنّ نيرون، الإمبراطور الروماني الأشهر، كان قد بدأ حياته السياسية محبوبا وشعبيا، قبل أن ينتهي مكروها، وتنتقل سيرتُه الدمويّة من جيلٍ إلى جيل؟ ونماذج نيرون "التاريخي" ليست بهذه الندرة، بل إنها لطالما تكرّرت، هنا وهناك، عبر الحقب والعصور. إلا أن ما استمرّ يذكّرنا به، حتى في بدايات القرن الواحد والعشرين، فهو ما شاع عنه، واعتُبر أسوأ أفعاله على الإطلاق، التفرّج على روما تحترق تحت ناظريه، وهو يعزف على قيثارته منتشيًا بما يراه. والحقّ يقال، ثمّة كثير اليوم في بعض أنحاء منطقتنا ممّا يذكّرنا به، وعلى وجه الخصوص في لبنان، حيث تتكاثر "نيرونات" السلطة المتفرّجة على "احتراق" البلد بمن فيه ..
لم يرث نيرون السلطة عن أبيه، فسُبُل تبوّؤ الحكم في الإمبراطورية الرومانية كانت عديدة، منها اللجوء إلى خيار التبنّي لتحقيق أهدافٍ سياسيةٍ ما. هكذا أقنعت آغريبين التي كانت معروفة بمراسها الشرس والمتسلّط، الإمبراطورَ كلود بتبنّي ولدها نيرون، إلى أن انتهت مقتولة (59 م) بأمرٍ من هذا الأخير، عندما واجهته معترضةً على طلاقه. هكذا باشر نيرون فترة حكمه متسبّبا بمقتل عديدين من أقربائه، متابعا بذلك تقليدا عائليا عُرف عن أسرته (أهينوبراربي) التي اشتهرت بالبطش والانحلال.
في بداية عهده، قرّر نيرون أن يواجه الفساد، ويخفّف من تسلّط العائلات الحاكمة الثرية التي كانت تشكّل مجلس الشيوخ، فأحبّه الشعبُ الذي وجد فيه منقذا، وكرهه السياسيون الذين عاداهم. ومما زاد من شعبيته حبُّه الفنون على أنواعها، ومن بينها فنون القتال، إذ بنى المسارح ونظم مباريات القتال وأنشأ مهرجانات شعرية ومسرحية وخفّف الضرائب، وهو ما أثقل الموازنة، وفاقم العداء له وسط أعضاء مجلس الشيوخ.
لكن، لم يطل الوقت حتى التهبت روما، وتدمّر الجزءُ الأكبر منها، فنُسب الحريق إلى نيرون، كونه استخدم لاحقا قسما مهمّا من الأراضي المحروقة ليبني عليها قصره الجديد. هذا ويرجّح الباحثون والمؤرّخون أن نيرون بريء، لأنه كان خارج المدينة لدى اندلاع الحريق، وأن هذه الكارثة قد تكون حادثا لا أكثر. ومع ذلك، اتّهم نيرون معتنقي المسيحية بإشعال المدينة، تمرّدا، أو بسبب ممارسة شعائرهم في الخفاء، فعاقبهم برميهم طعامًا للأُسُود، وبإحراقهم أحياء، وأحيانا باستخدامهم مشاعل نارية خلال الأعياد والحفلات المقامة في حدائق قصره.
عند انهيار الخزينة الرومانية التي تسبّب بها أسلوبُ عيش الإمبراطور الباذخ وحريقُ روما، رُفعت الضرائبُ بشكل جنوني، ما جعل شعبية نيرون تتراجع، والعداوات من حوله تتفاقم، فكان أن شنّ بعضُ حكّام المناطق ضده حربا، وأعلنه مجلسُ الشيوخ "عدوًّا للأمة"، وحكم عليه بالموت. هرب نيرون ملتجئا إلى أحد العبيد المحرّرين الذي بقي مخلصا له. وبدل أن يسلّم نفسَه، نوى أن ينتحر مردّدا جملته: "أيُّ فنّانٍ يموت معي"، "أي فنان يموت معي"، وكان بذلك ينعى نفسه فنّانا عظيما، قبل أن ينحر عنقه بالسيف.
والحال أن صيت نيرون المخيف، شعبيته ومدى إجرامه، تخضع اليوم لإعادة تقييمٍ وقراءة، وذلك تحقّقًا من مدى صحتها، مع الإشارة إلى أن المصادر المتحدّثة عنه صادرةٌ، في الغالب، عن ساسةٍ رومان كانوا من ألدّ أعدائه، أو عن مسيحيين وثّقوا جرائمه بحقهم. هذا لا يعني أن الهدف هنا تبرئته من جرائمه، بقدر ما هو سعي محمود إلى فرز الحقيقيّ من المتخيّل، وتمييز الواقعي من الأسطورة.
بخلاف ذلك، سوف يستحيل على المؤرّخين والباحثين المعنيّين بشؤوننا، سلوكَ الطريق نفسه حيال "نيروننا" المحلّي، أو بالأحرى "نيروناتنا". فصورُهم "الطاهرة"، "الشعبية"، "النقية"، التي تُظهر مدى شعبيتهم، وتروي مآثرهم العديدة وإنجازاتهم وحسن ممارساتهم، لن تصمد في وجه مساءلتهم، وسوف تُظهِّر سوادَ أياديهم الملطّخة بالإثم والفساد.