هبّة القدس .. انتصار صغير ودلالات كبيرة
انتهت موجة المواجهات بين الشبان المقدسيين المنتفضين وسلطات الاحتلال الإسرائيلي، أو ما عرفت بـ"هبّة رمضان" و"انتفاضة باب العامود"، بانتصار فلسطيني صغير في جانبه العملياتي، ولكنه يمكن أن يكون كبيرا وذا دلالة حاسمة إذا ما أحسن استثماره في هذا التوقيت الحرج.
الإنجاز الملموس، بكل بساطة، هو إزالة الحواجز المعدنية التي وضعها الجيش الإسرائيلي في ساحة باب العامود، أو "باب دمشق" كما يقال له باللغات الأوروبية، أهم مداخل المدينة المقدسة وأكثرها شهرة وحيوية، لمنع تجمّع الشبان المقدسيين في أمسيات رمضان، جريا على عاداتهم المتوارثة منذ سنوات طويلة، لإحياء ليالي الشهر الفضيل ببعض الطقوس والعروض الشعبية، وهذه الإشارة الرمزية هي دلالة على الجهة التي تملك السيادة الفعلية على الأرض في مدينة القدس المحتلة.
تواصلت الأحداث والمواجهات على امتداد النصف الأول من شهر رمضان، وكادت تشعل الأراضي الفلسطينية المحتلة بأسرها، استمرارا لنماذج مشابهة من الهبّات الشعبية المحلية، أي التي انحصرت أحداثها داخل مدينة القدس، وتحديدا في البلدة القديمة من المدينة، أبرزها ما عرف بمعركة البوابات الإلكترونية في يوليو/ تموز 2017، ومعركة باب الرحمة في فبراير/ شباط 2019، وكانت جميعها ذات طابع عفوي، ومن دون قيادات واضحة، وقد نشأت وتطورت خارج إطار الحركة الوطنية الفلسطينية وفصائلها التقليدية.
جاءت الأحداث وسط احتدام الجدل الفلسطيني الداخلي بشأن إجراء انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في موعدها
أما الهبّة التي جدّت أخيرا فذات ميزات استثنائية، فهي جاءت بعد قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها، وما تلا هذه الخطوات من سعار إسرائيلي محموم لتغيير طابع المدينة، والتسريع في خطوات تهويدها، ومحاربة أي مظهر من مظاهر الوجود السياسي الفلسطيني فيها. يكفي للتدليل على ذلك اعتقال محافظ القدس المعيّن من السلطة الفلسطينية عدنان غيث 25 مرة، خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وكذلك اعتقال الوزير الفلسطيني لشؤون القدس فادي الهدمي، ومنع أي نشاط علني ذي طابع فلسطيني، بما في ذلك إغلاق المؤسسات الفلسطينية كافة، ومنع النشاطات الاجتماعية والرياضية والثقافية، كاقتحام مجالس العزاء وفضّها بالقوة، ومنع الإفطارات الجماعية في رمضان، وحظر إقامة بطولات رياضية برعاية المرجعيات الرياضية الفلسطينية، ومنع تنظيم فعاليات أهلية تطوعية للتوعية بشأن جائحة كورونا.
كما جاءت الأحداث وسط احتدام الجدل الفلسطيني الداخلي بشأن إجراء انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في موعدها المقرّر في 22 من الشهر المقبل (مايو/ أيار)، أو تأجيلها بسبب عدم استجابة إسرائيل، حتى اللحظة، للطلب الفلسطيني بإجراء الانتخابات، ورفعت جميع القوى السياسية الفلسطينية شعار "لا انتخابات من دون القدس"، ولكنها تباينت في كيفية ترجمته، بين داع إلى خوض معركة شاملة لانتزاع حق المقدسيين في المشاركة في الانتخابات، وفرض هذا الحق عمليا عبر نشر صناديق اقتراع رمزية، وبين من يكتفي بانتظار الاستجابة الإسرائيلية للطلب، وتفعيل ضغوط دولية على سلطات الاحتلال، وصولا إلى استخدام القدس ذريعة لتأجيل الانتخابات أو إلغائها كليا.
موضوع السيادة على مدينة القدس، وتحديدا على شطرها الشرقي المحتل في حرب يونيو/ حزيران 1967، ما يثير كل هذا الصراع ويؤجّجه
ويذكر أن اتفاق إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل (أوسلو) وملحقاته وضع ترتيبات خاصة لمشاركة الفلسطينيين في الانتخابات، من خلال مشاركة عدد قليل منهم (نحو 6300) عبر صناديق البريد، وباقي المواطنين، أي أكثر من 150 ألفا، من خلال مراكز الانتخاب الفلسطينية المنتشرة خارج حدود المدينة.
إذن هو موضوع السيادة على مدينة القدس، وتحديدا على شطرها الشرقي المحتل في حرب يونيو/ حزيران 1967، ما يثير كل هذا الصراع ويؤجّجه في المحطات المختلفة، سواء عبر المواجهات السياسية والقانونية، أو بالصدامات الميدانية العنيفة، والتي كانت القدس، ومسجدها الأقصى بشكل خاص، الحلبة الرئيسية التي انطلقت منها هبّات وانتفاضات ومعارك طويلة كثيرة، ثم عمّت جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وكشفت عفوية التحرّكات الجماهيرية في القدس، وغياب قيادة واضحة لها، اتساع الفجوة وعمقها بين الحراك الشبابي الفاعل على الأرض والقيادات السياسية المتركزة في رام الله، فقد اكتفت هذه بإطلاق النداءات والبيانات، لكنها كانت أبعد ما تكون عن التأثير في مجرى الأحداث. ويمكن تعميم هذا الحكم على حراكات ونشاطات وطنية واجتماعية كثيرة جرت في الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال السنوات السابقة، بما في ذلك حراكات المعلمين والمحامين المطلبية، والحركات ذات الطابع السياسي المباشر، مثل "ارفعوا العقوبات عن غزة" في الضفة الغربية، وحراك "بدنا نعيش" في قطاع غزة.
الأسباب المباشرة الداعية للانفجار أكثر من أن تُحصى، وهي تمثل ترجمات يومية لسياسات تطهير عرقي وتمييز عنصري للسكان الفلسطينيين
ومن نافل القول إن آخر ما فكر فيه الشباب المنتفض في القدس هو المشاركة أو عدم المشاركة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، أو أن تكون هذه القضية هي محرّك "هبّة رمضان"، فالأسباب المباشرة الداعية للانفجار أكثر من أن تُحصى، وهي تمثل ترجمات يومية لسياسات تطهير عرقي وتمييز عنصري للسكان الفلسطينيين، وتشمل جميع مجالات الحياة في القدس، من الاستفزازات اليومية التي يقوم بها جنود الاحتلال للشبان في القدس وتوقيفهم الاعتباطي وتفتيشهم واحتجازهم لأبسط الأسباب، ومختلف أشكال التسلط والمضايقات على الحياة التجارية وفرض الضرائب الباهظة، ومنع تراخيص البناء، وهدم البيوت والمنشآت، وعمليات الدهم والاقتحام للأحياء والمنازل، والهجمة على مؤسسات التعليم، والاقتحامات المتكرّرة للأماكن المقدسة، وخصوصا للمسجد الأقصى، ومحاولات حكومة الاحتلال فرض تقسيم زماني ومكاني جديد، بدل الوضع القائم منذ مئات السنين. فضلا عن الدعم الأمني والقانوني الذي تحظى به الجماعات الاستيطانية واليمينية المتطرّفة من حكومة الاحتلال، سواء كانت جمعيات متخصصة في الاستيطان والاستيلاء على المنازل الفلسطينية، مثل جمعيتي "إلعاد" و"عطيرت كوهانيم"، أو مجموعات من غلاة المتدينين المتطرّفين التي لا تخفي نيتها في هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل اليهودي مكانه، مثل جماعة أمناء جبل الهيكل، وكذلك الجمعيات المنبثقة عن مجموعات سياسية عنصرية تتبنى العنف، مثل جماعة "لهافا"، التي بادرت أخيرا إلى تصعيد المواجهات ضد المواطنين الفلسطينيين في القدس.
سجّل الفلسطينيون انتصارا مهما، لكنه يمكن أن يتبدّد في حال بقاء الطابع العفوي والموسمي لتحرّكات شعبية مثيلة
تعاملت الحكومة الإسرائيلية، التي بادرت إلى التراجع ونزع الحواجز المعدنية، مع الأحداث الأخيرة بدرجة عالية من ضبط النفس، بحيث امتنعت عن استخدام الأسلحة النارية الحية، خشية امتداد لهيب الأحداث بسرعة إلى سائر المناطق الفلسطينية، وهو تراجع لا يمكن فهمه إلا بوصفه تكتيكيا مؤقتا، في ضوء النيات المعلنة لتهويد المدينة، وفصلها عن محيطها الفلسطيني، وتقليص نسبة الفلسطينيين من مجمل سكان القدس من نحو 38% حاليا إلى ما دون 15%، عبر إخراج أحياء سكانية فلسطينية بأكملها من حدود البلدية، وضم تجمعات استيطانية محيطة. وفي المقابل، سجل الفلسطينيون انتصارا مهما، لكنه يمكن أن يتبدّد في حال بقاء الطابع العفوي والموسمي لتحرّكات شعبية مثيلة وعزلتها عن الحركة السياسية الفلسطينية المنظمة. وعلى العكس من ذلك، يمكن له أن يترسّخ ويثمر منجزات سياسية في حال تطوير الحركة الوطنية الفلسطينية أدوات تعاملها مع القدس ومواطنيها، وانتقالها من لغة النداءات والتعميمات إلى حالة الانخراط الفعلي في هذه المعركة، وتوفير استحقاقاتها على جميع المستويات.