هدايا بن غفير الثمينة
لولا أنّ المعنيّ بهذا النص شخصٌ وضيع، ومن حثالة الحثالة، لكان العنوان أعلاه "شكراً" إيتمار بن غفير، على ما أسديته من خدمات جليلة وقدّمته يداك من دون أن تدري، من هدايا ثمينة لشعب تودّ فناءه، جرّاء رعونتك الشديدة، وهوسك المرضي، باقتحام باحة المسجد الأقصى، وعماء بصيرتك التام، باختيار المكان الذي أسفرت كل المواجهات فيه عن فوز سياسي محقّق للمقدسيين خصوصا، وعموم الفلسطينيين في الداخل والخارج عامة، من قبيل موقعة البوابات الإلكترونية، ومسيرة الأعلام اليهودية، ناهيك عن معركة الشيخ جرّاح المظفرة.
قبل الإتيان على تلك الهدايا المجانية، وكانت سخيّة وبالجملة، قد يكون من المفيد التذكير بما قاله رئيس المعارضة في الكنيست الحالي، يئير لبيد، في معرض تشخيصه اللاذع للوضع السياسي الإسرائيلي الراهن، حين أذاع في الناس أنّ "المجانين استولوا على المصحّة" لكنّه لم يستطرد أنّ المرضى العقليين هؤلاء قد طردوا الأطباء وجهاز التمريض والإداريين، وأنّهم استبدلوا العقاقير، وأغلقوا البوابة على أنفسهم، وغيّروا اللوائح المعمول بها، في إشارة من يئير إلى ما آلت إليه الحال في رأس الهرم داخل دولة الاحتلال البغيض.
في تعداد هدايا بن غفير العرضية لفعلته الآثمة، يمكن القول إنّ موجة ردود الفعل غير المسبوقة على واقعة التسلّل الخاطفة (13 دقيقة) وما اشتملت عليه هذه الردود القوية من إدانات وتنديدات ومواقف عربية ودولية شاملة، لم تشذّ عنها أيّ جهة أو عاصمة، قد صبّت أولاً في صالح تعزيز مكانة المسجد الأقصى، الذي ضاعف من قداسته ومركزيته النضالية لدى الفلسطينيين، وصار أشدّ حصانة ضد عمليات التهويد والأسرلة، وزاد من هيبته الدينية ورفعته المؤكدة أكثر من ذي قبل، إن لم نقل إنّه بات سداً منيعاً ورمزاً باذخاً للمقاومة الوطنية، سيما أنّه كان مهد كلّ الشرارات التي ألهبت نار الموجهات السابقة.
كما أحيا هذا الاستفزاز السافر من المجانين واللصوص والجنائيين في "مستشفى العصفورية" العبري القضية الفلسطينية دفعة واحدة، حيث نقلتها هذه الفعلة النكراء من الهامش، منذ عهد ترامب الذميم، إلى صدارة جدول الأعمال العربي الدولي، بمن فيهم المطبّعون الجدد. كما أعطى القيادة الفلسطينية، المحاصرة والمتروكة خارج التغطية، سانحةً لم تحلم بها من قبل، أو قل هدية غير منتظرة، قدّمها الوزير المستوطن بن غفير، من دون أن يعي، إلى أعدى أعدائه المرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أولئك الذين يطالب هذا الفاشي الصغير بطردهم من بلادهم، ويهتف بالموت لهم.
قد يستخف ذوو الرؤوس الحامية بمثل هذه المكاسب السياسية، وقد يلوم بعضُهم فصائل المقاومة في غزّة على امتناعها عن تفعيل تهديداتها الصاروخية السابقة، ويعيبون على القيادة عدم استخدام ما بين يديها من قذائف فرط صوتية عالية الدقّة (حسب التعبير الروسي)، وقد يستهين آخرون بجدوى الاجتماع العاجل لمجلس الأمن، والتغيير الجزئي في النبرة الأميركية، فيما كان الإحجام عن القصف من القطاع المحاصر عين العقل الراجح هذه المرّة، أي عدم الانجرار إلى ملعب القوة المفضل لدى الاحتلال، كما كان الأداء الدبلوماسي المنسّق للرسمية الفلسطينية في محله المناسب أيضاً، الأمر الذي أخرج المحتلين عن طوْرهم بشتم الأمم المتحدة، عندما وجدوا أنفسهم مذمومين مدحورين من العالم كله.
ولعلّ من بين أثمن هدايا أولئك المجانين، بعد استيلائهم على المصحّة، هذا الصدع الكبير في مجتمعٍ مفتونٍ بقوته العسكرية، ومطمئنٍ تماماً للحماية الأميركية، إذ تتزايد الدلائل الآن على ظهور انقساماتٍ لدى النخب العسكرية والسياسية والقضائية والأكاديمية والإعلامية، ناهيك عن انشقاقاتٍ في الجالية اليهودية الأميركية، تشير، في مجموعها، إلى أنّ ارتدادات هذا الزلزال قد تفعل ما لم تفعله كلّ الحروب والمواجهات في بنية دولة استعمارية لا تزال تخشى على وجودها، رغم كلّ ما في ترسانتها من أسلحة تقليدية حديثة وقنابل نووية.
لذلك كلّه، ينبغي شكر بن غفير ووضع هذه الكلمة بين قوسين، تماماً مثل وضع القملة بين ظفرين، ومن المستحبّ أيضاً الدعاء أن يكثُر أمثاله، وأن يرزق دولة الاحتلال بمزيد من هؤلاء المجانين العُميان، لعلّهم يواصلون جدع الأنف الإسرائيلي بأيديهم، وارتكاب الحماقات بالجملة والمفرّق، إلى أن تنجلي الصورة على حقيقتها، وتنثال الأصباغ الرخيصة عن الوجه العنصري الأصولي المتبرّج بقناع الديمقراطية والليبرالية والقيم الحضارية، وتلك، لعمرك يا أخا العرب، أثمن الهدايا المرجوّة.