هذا الابتذال في الصحافة
توفّي، قبل أيام، الفنان المصري القدير صلاح السعدني، عن نحو 81 عاما. وكالعادة، سقطت وسائل إعلام مصرية عديدة في الكليشيهات المعتادة في مثل هذه الأنباء، فقد عرضت صحيفة، صورة لنجل السعدني، في أثناء دفن والده، وكتبت أنه أصيب بالانهيار في هذه اللحظة! وكأن هذا خبر يستحق إفراد مساحة له، فمن الطبيعي أن ينهار أي شخص في موقف كهذا. لكن المفارقة أن الابن لم يكن منهارا أصلا، بل ظهر في الصورة المرفقة مع الخبر متماسكا، وإن بدَت على وجهه علامات الحزن، لكن الصحيفة تبدو مصمّمة على هذا التعبير المبتذل، حتى لو كان منافيا للواقع! وتريد للابن أن يكون منهاراً رغم أنفه.
أتحفتنا الصحيفة نفسها كذلك بأخبار أخرى من العينة نفسها، مثل نشر خبر يفيد بوصول جثمان الفنان الراحل إلى المسجد تمهيدا للصلاة عليه، وخبر ثان يكشف أن نجل السعدني سيرافق جثمانه إلى المقابر، وثالث عن إتمام عملية الدفن، وأخبار أخرى عن وصول الفنان الفلاني إلى مكان الجنازة، وبكاء الفنانة الفلانية في أثناء العزاء (كأنه أمر غير معتاد)، وأخيرا، خبر عن فنان آخر ينعى صلاح السعدني بقوله: "اللهم اغفر له وارحمه".
بالطبع، كان لا بد أن ينفعل المشاهير الذين حضروا الجنازة والعزاء، على المصوّرين والصحافيين الذين حاصروهم بالكاميرات والأسئلة وطلب التصريحات، ليتحوّل هذا الانفعال إلى خبر يتكرّر كثيرا في تغطياتٍ كهذه، ويُفتح نقاش بعد ذلك، عن حدود (وضوابط) التغطية الصحافية لوفيات المشاهير، وتقييم ردود أفعال الحاضرين. والمفارقة أن هذا المجهود الضخم الذي تبذله وسائل الإعلام، والذي يتسبّب في مشاجرات ومشادّات ومناقشات ومشكلات، لا يتوجّه إلى تناول قضايا حقيقية لا سمح الله، بل لإتحاف الجمهور بأخبارٍ مبتذلةٍ كهذه.
دائما ما نجد وسائل الإعلام تؤكد أن قوات الأمن اليقظة استطاعت القبض على عناصر إجرامية "شديدة الخطورة"، وكأن هناك عناصر متوسّطة أو منخفضة الخطورة
تكشف تغطية الصحف والفضائيات وفاة الفنان الكبير استمرار عيوب مثل هذه التغطيات، وأبرزها الاستعانة بالكليشيهات، أي التعبيرات المبتذلة التي لا تقول شيئا ذا معنى، أو تطرح فكرة جديدة، بل تكون في عداد البديهيات في معظم الأحيان. فعند وفاة أحد المشاهير بنوبة قلبية، تحرص الصحف على تأكيد أن هذه النوبة "مفاجئة"، وكأن هناك نوبة قلبية يمكن توقّعها مسبقا! فهذه النوبات مفاجئة بالتعريف. وفي حالة أن يكون المتوفّى مريضا قبل فترة من وفاته، نجد حينها وسائل الإعلام تلجأ إلى تعبير مبتذل آخر، يفيد بأنه توفي "بعد صراع مع المرض"، وهو تعبيرٌ لا معنى له، لأن المرض لا يُصارَع، بل يُعالَج، ومن الأفضل أن تلجأ وسائل الإعلام إلى مصطلحات أخرى أكثر دقة، مثل تحديد موعد إصابته بالمرض، والقول على سبيل المثال: "وفاة فلان الفلاني بعد أشهر من إصابته بمرض كذا". أما إذا كانت الوفاة بسبب السرطان، نجد وصفا عجيبا لهذا المرض، إذ تجمع الصحف على أنه "لعين" أو "خبيث"، من دون تفسير لسبب تخصيص السرطان بهذين الوصفين، عن بقية الأمراض.
وفي أخبار الحوادث، دائما ما نجد وسائل الإعلام تؤكد أن قوات الأمن اليقظة استطاعت القبض على عناصر إجرامية "شديدة الخطورة"، وكأن هناك عناصر متوسّطة أو منخفضة الخطورة، فهذه كلماتٌ لا داعي لها، وتهدف إلى عرض "إنجازات" قوات الأمن، بهدف الإشادة بها وتحسين صورتها عند الجمهور، وغالبا ما تكون مقتبسة بالحرف من البيانات الصحافية التي تصدرها وزارة الداخلية، للإعلان عن مثل هذه "الإنجازات".
أما عبارة "القضايا ذات الاهتمام المشترك"، فتتكرّر كثيرا في البيانات الصحافية التي تصدرها الجهات الرسمية العربية، في أثناء لقاء زعيمين أو أكثر. لكن العبارة إذا كانت مبرّرة في هذه البيانات، فهي ليست كذلك للصحافي الذي ينقلها حرفيّا في تقريره، فمن البديهي أن تُبحث قضايا مشتركة، وإلا فما الحاجة للقاء من الأساس؟ المطلوب معرفة ما هي هذه القضايا وكيف نوقشت، والنتائج التي ترتبت على المناقشة، إلا أن سبب تجاهل هذه الأسئلة عادة ما يكون غير متعلّقٍ بقدرات الصحافي نفسه، بقدر ما ترتبط بالسياق السياسي الذي يعمل فيه، والذي تطغى عليه السيطرة الرسمية على وسائل الإعلام وتوجيهها في الاتجاه الذي يريده النظام.
لا تتعلّق مشكلة مثل هذه التعبيرات بأنها صحيحة أم لا فقط، بل بكثرة تكرارها إلى درجة أفقدتها معناها، وجعلت من يستعين بها في مرمى الاتهام بالفقر اللغوي والكسل المهني وعدم القدرة على إيصال المعنى بدون ترديد تعبيراتٍ ملّ الجمهور من تكرارها.