هذا الانقسام في إسرائيل
لم تحسم إسرائيل موقفها النهائي من الشكل الجديد لمهامّ المحكمة العليا. فبعد وصول شكل متشدّد من أشكال التطرّف إلى السلطة، سرعان ما حاولت الكتلة اليمينية المتطرّفة التي وجدت السلطة في يدها أن تستغلّ استقرارها الحكومي، فسارعت إلى تشريع تغيير شديد في الشكل القانوني الناظم لعمل الحكومة وعلاقته بالمحكمة العليا. وترغب هذه السلطة في إعطاء مرونة أكبر لها في اتخاذ القرارات المهمة، من دون أي منغّصات قد تأتي من المحكمة العليا. وبالطبع، تحاول حكومة نتنياهو أن ترسّخ أقدامها بتبنّي قرارات ذات شعبية تضمن بقاءها أو إعادة انتخابها مرّة بعد مرّة، وقطع الطريق على التيارات المخالفة أو اليسارية في الوصول إلى سدّة الحكم. وكانت الانتخابات المتكرّرة في إسرائيل واضطراب موقفها السياسي والخلافات العميقة بين القوى اليسارية (وخصوصاً حزب العمل وحركة ميرتس) وتخبّطها في التموضع الانتخابي، عوامل ساهمت في تعزيز اليمين ووصوله إلى حيازة أكثرية قادرة على القيام بتغيير جوهري في الشكل السياسي للسلطة في إسرائيل.
قطعت التظاهرات الجماهيرية الحاشدة، مؤقتاً، الطريق السلس على اليمين في محاولته الانتقال نحو مزيد من السيطرة، فاضطرّ نتنياهو إلى التمهّل قليلاً، وساعد الجفاء الأميركي مع هذه الحكومة في التريث أكثر قبل المضي في تعديل القوانين، واكتسبت التظاهرات زخماً متجدّداً بالموقف الأميركي. أما اليمين الذي يمتلك هو الآخر شارعاً أوصله إلى السلطة وأعطاه أكثرية ذات أريحية عالية تحصّنه من إعادة الانتخابات، فتحرّك أيضاً، لكن ذلك أعطى مفعولاً عكسياً، فقد مَنحت أخبارُ تحرّك اليمين التيارَ المعارض زخماً جديداً، ولعل رفض بعض جنود وضباط الاحتياط الخدمة أعطى لهذا الزخم وقوداً، وبدا شبه انقسام يشطر المجتمع الإسرائيلي، لا حلّ له. وقد أجبرت هذه الحالة رئيس الحكومة الإسرائيلية على إطلاق شائعاتٍ وتصريحاتٍ مبطّنة بأنه سيلجأ إلى تعديل التشريعات المقترحة في مسعىً لتخفيف الانقسام الذي طفا على السطح، وسارع إلى محاولة إصلاح العلاقة مع جو بايدن، لما للموقف الأميركي من قوّة تأثير في الشارع، وكان هذا الموقف سبباً في ديمومة التظاهرات التي انطلقت لتعارض التغيير القانوني.
من الناحية الشكلية، يبدو أن المجتمع الإسرائيلي منقسمٌ بشكل شبه متساوٍ. ولا تقوى الحكومة، بشخص نتنياهو على المضي عميقاً في طرح قوانينها الجديدة وتبنّيها، وتكتفي بمحاولات لقياس ردود الفعل، ولا تتوقّف الحركة في الشارع المليء بمعارضةٍ ترفض المساس بالقانون الحالي. ويطاول الاعتراض المؤسّسات الرسمية في إسرائيل، والخطورة تكمن في اعتراض أفراد في المؤسّسات الأمنية والعسكرية. وإذا أضيفَت إليها مواقف الدول الداعمة لإسرائيل، يصبح للتقدّم خطوات في القوانين الجديدة عقابيل شديدة، كتعرّض أمن إسرائيل للخطر! وهو شعارٌ أساسي لدى إسرائيل منذ قيامها، فالتلاعب بأمن إسرائيل خطّ محظور على الداخل، وتتكفّل الولايات المتحدة بالحفاظ عليه في الخارج. وتحت هذا الشعار، يجري حشد الجيش الإسرائيلي الذي يحيط به الانقسام أو يتخلّله التردّد حيال القوانين الجديدة، لكنه انطلق نحو جنين، ونفذ عمليات عسكرية من الأرض والجو، وحاصر المخيم وهدم واعتقل. وقد تراجع خلال هذا الهجوم كل حديث عن خلافات داخلية. وفجأة أصبح المجتمع الإسرائيلي كتلة نارية واحدة، موجّهة نحو الأراضي الفلسطينية، والعنوان العريض هو أمن إسرائيل، من دون مراعاة أو اعتباراتٍ لأمن أي شعب مجاور.
يستطيع المجتمع الإسرائيلي التمتّع بترف التظاهر، والتظاهر بالانقسام، واللفّ والدوران حول موقف الولايات المتحدة، ومحاولة إظهار التباين بين مؤسّستي الرئاسة والحكومة. ويزور الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ الولايات المتحدة، فيما يكتفي بايدن بمهاتفة نتنياهو ومجاملته بدعوة غير جادّة لزيارة البيت الأبيض. ورغم هذه الأوضاع، الواقع أنه لا الانقسام الذي يبدو على المجتمع الإسرائيلي، ولا انتكاس الانتخابات المتلاحقة التي جرت خلال العامين الماضيين، لهما تأثير في قضية الأمن، فمن هذه الناحية يقف خلف إسرائيل كتلة صلبة موحدة، وما تبقى مجرّد ترف "ديمقراطي".