هذا الغياب العربي الصادم

06 نوفمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

لا يعادل ثقل حضور الانتخابات الأميركية في المشهد السياسي الراهن لمنطقة المشرق العربي، والشرق الأوسط عموماً، إلا الغياب الصادم لأي دور عربي في الصراع الدائر حاليا حولها، والذي يرجّح أن يرسم مستقبلها ومصيرها عقوداً عديدة. مفارقة أن تضع المنطقة مصيرها في يد ناخب أميركي لا يعرف شيئاً عنها ولا يلقي لها بالاً من أصله، تتجلى في استنزاف نخبها وحكوماتها، وحتى العامة، جل وقتهم هذه الأيام في دراسة اتجاهات الرأي العام الأميركي، وتحليل النتائج المتوقعة للانتخابات، نحاول قياس أثرها فينا وتداعياتها على قضايانا حال فاز هذا المرشّح أو ذاك: ماذا يعني فوز المرشّح الجمهوري ترامب بالنسبة للقضية الفلسطينية والحربين في غزّة ولبنان، ما انعكاسات فوز المرشّحة الديمقراطية هاريس في القضية السورية، العلاقة مع إيران، ومنطقة الخليج... إلى غير ذلك من تساؤلات وتقديرات تشغل بالنا ونبحث عن إجابات لها. لا شك أن الإيرانيين والأتراك في المنطقة، والأوروبيين، والروس والصينين، خارجها، يفعلون الشيء نفسه، فالولايات المتحدة، في نهاية المطاف، قوة عظمى، يشعر بوطأة حضورها العالم كله، لكن الفارق الرئيس في الحالة العربية هو الغياب المطلق لأي دور، أو حتى موقف، عربي مما يجري في منطقتنا، حالة من الاستسلام المطلق وكأننا أمام أقدار لا رادّ لها.

يميل منشغلون بسياسات المنطقة وتاريخها إلى تشبيه ما يجري حالياً لجهة أهميته في رسم مستقبل منطقتنا في غياب دور عربي مؤثر بمرحلة الحرب العالمية الأولى، عندما انهارت الدولة العثمانية وانفردت القوى الأوروبية المنتصرة (فرنسا وبريطانيا خصوصاً) في تقرير مصير شعوب المنطقة ودولها ومجتمعاتها. الواقع أن الفارق كبير بين الحالتين، ففي فترة الحرب الأولى كان العرب ضعفاء، وقدرتهم على انتزاع دورٍ مؤثرٍ في شؤونهم كانت محدودة، اليوم يملك العرب القدرة على التأثير لكن تعوزهم الإرادة، الرؤية الواضحة، والتقدير السليم لطبيعة مصالحهم. وإذا وجدنا تبريراً لغياب دور دول المشرق العربي، العراق وسورية تحديداً، اللتين تحوّلتا إلى ساحة صراع نتيجة انهيار الدولة فيهما، الأولى بسبب تدخل خارجي، والثانية بفعل سوء إدارة النظام لأزمة داخلية، يصعب أن يجد المرء مبررّاً للغياب المريع لكل من مصر ودول الخليج العربية.

ويندر أن نجد في تاريخ مصر المعاصر إحساساً بقلة الحيلة وعدم الثقة بقدرتها على التأثير في إقليمها، والمنطقة، كما اليوم، كما يندر أن نجد في الفترة عينها هذا المقدار من اللامبالاة تجاه محاولات قوى إقليمية أخرى رسم مصير المشرق العربي ومستقبله في غياب مطلق لدور مصر، وهي التي ظلت ترى فيه ركناً أساسياً من أركان أمنها القومي، علماً أن أكثر الأخطار والتهديدات التي واجهتها مصر عبر العصور، منذ أيام الحثيين في الألف الثاني قبل الميلاد وصولاً إلى قيام إسرائيل، كان مصدرها الشرق. استغرابنا من انكفاء مصر بهذه الطريقة لا ينطلق من اعتبارات قومية، شعاراتيّة متصلة بالأمن القومي العربي، التضامن العربي... إلخ، بل من منطلق مصلحة مصرية خالصة، يحار في إدراك كنهها حتى المكيافيليون، الواقعيون، الذين يميلون إلى فهم العالم بطريقة نفعية بحتة، وهو ما يفترض أنه أيضا مذهب حكام مصر اليوم. من هذا المنطلق، لا يمكن للخلاف مع حركة حماس في السياسة أو الأيديولوجيا تبرير موقف المتفرّج الذي تتبنّاه مصر إزاء ما يجري على حدودها الشرقية. تدور التفسيرات المتبقية حول أن نخب مصر الحاكمة إما مستقيلة تماما من دورها الإقليمي، أو أنها لا تفهم حقّا ما يدور حولها، أو إذا كانت تفعل، فهي تسيء التقدير إذا اعتبرت أن الانكفاء والغياب عن الصراع الدائر حول تشكيل المشرق العربي لن ينعكسا سلباً على مصالحها. ترتكب دول الخليج العربية، على الجانب الآخر، الخطأ نفسه إذا ظنّت أن وقوفها موقف المتفرّج سوف يعفيها من أي مسؤولية أو ضرر، فيما تنفرد أطراف غير عربية في تقرير مستقبل المشرق العربي الذي لا يمكن لدول الخليج أن تصمُد حال انهياره كليّاً، أو وقوعه تحت هيمنة قوى أخرى في المنطقة. إذا بقي التفكير هكذا سيأتي من يقول لكم: "سقطتم يوم سقط المشرق".