هذه الحرب الباردة بين المغرب وإسبانيا
تتواتر التقارير التي تُصدرها مراكز بحث وتفكير إسبانية بشأن تأثير التحالفات الدولية الجديدة للمغرب على النفوذ الإسباني في المنطقة، وتحديداً ما يتعلق بمستقبل مدينتي سبتة ومليلية والجزر الجعفرية التي تحتلّها إسبانيا منذ قرون.
في هذا الصدد، أصدر المركز الأعلى لدراسات الدفاع الوطني (CESEDEN) والمعهد الإسباني للدراسات الاستراتيجية (IEEE)، نهاية الشهر المنصرم (نوفمبر/ تشرين الثاني)، تقريراً تحت عنوان ''سحابة حمراء في سماء مدريد'' حذَّرا فيه من ''مخاطر التقارب المغربي الإسرائيلي الذي قد يُحوّل المغرب إلى قوة إقليمية كبرى''. ويعكس التقرير مخاوف إسبانيا من أن يمكّن هذا التقارب جارها الجنوبيَّ من الحصول على الخبرة العسكرية والأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية، وتوظيفها في إعادة تموضعه الاستراتيجي في غرب البحر الأبيض المتوسط، حيث تقع المدينتان المغربيتان المحتلتان، هذا فضلاً عن استفادته من نفوذ اللوبي اليهودي في العواصم الكبرى. وعلى الرغم من أنّ التقرير كان يُفترض أن يبقى سرّياً، فقد حرصت الاستخبارات الإسبانية، في ما يبدو، على تسريبه بغاية إيجاد حالة من التعبئة الوطنية داخل الرأي العام، وهو ما يؤشّر على أنّ هذا التقارب بات مصدر قلقٍ بالغ لمختلف مؤسسات الدولة الإسبانية وأجهزتها الحساسة.
إضافة إلى ذلك، أصدر مرصد سبتة ومليلية، الذي يشرف عليه معهدُ الأمن والثقافة (ISC)، الأسبوع الماضي، تقريراً حمل عنوان ''مزاعم المغرب بشأن سبتة ومليلية من منظور الخانة الرمادية" عكس رؤية الإسبان لتأثير التحالفات الدولية الجديدة للمغرب على المدينتين. وحسب التقرير، الذي حرَّره باحثون من جامعات برشلونة وغرناطة وإشبيلية، فإنّ المغرب بقدر ما يحاول تجنّب المواجهة العسكرية المباشرة لاستعادة المدينتين، يسعى إلى وضعهما في خانة رمادية، من خلال اتباع ''استراتيجية مختلطة'' تمكّنه، على المدى البعيد، من استعادتهما بأقل الخسائر الممكنة. ويستشهد محرّرو التقرير على ذلك بإغلاق الرباط الحدود البرية مع مليلية (2010) ومع سبتة (2019) تحت يافطة محاربة التهريب، والسماح بتسلّل آلاف المهاجرين غير الشرعيين إلى سبتة في مايو/ أيار الماضي.
يخلص التقريران إلى أنّ المغرب، بتحالفاته الجديدة، سيصبح مبعث خطرٍ على إسبانيا في المستقبل، وذلك بسعيه إلى إحداث تغييرٍ متدرّجٍ في ميزان القوى، من دون الدخول في مواجهة عسكرية معها، ما يعد تحدّياً استراتيجياً بالنسبة للإسبان الذين باتوا أكثر تخوّفاً من أن تفضي هذه التحالفات إلى تغيير معادلة القوة والنفوذ في مضيق جبل طارق، والتي ظلّ فيها النفوذ الإسباني رقماً أساسياً طوال عقود. من هنا، ترى مراكز البحث والتفكير الإسبانية المعنية أنّ صانع القرار في مدريد مدعو إلى النظر بجدّية إلى ''الصبر الاستراتيجي للمغرب'' في أثناء تحليل سياسته إزاء سبتة ومليلية، مع الأخذ بالاعتبار التحديث المستمر لترسانته العسكرية، ما تعتبره هذه المراكز مندرجاً ضمن تطلّع الرباط إلى تنويع خياراتها الاستراتيجية والاستعداد للاحتمالات كافة، خصوصاً أنّ الفجوة العسكرية بين البلدين بدأت تتقلّص خلال السنوات الأخيرة، وهو أمرٌ يدرك الإسبان جيداً الدلالات التي ينطوي عليها على غير صعيد.
يتعلق الأمر بحربٍ باردةٍ تتوالى فصولُها على أكثر من واجهة، من دون أن يحول ذلك دون حرص البلدين على التأكيد على متانة علاقاتهما القائمة على الشراكة، سيما في ما له صلة بالتنسيق الأمني في مكافحة الهجرة السرّية والإرهاب، والتبادل التجاري والاقتصادي. بيد أنّ صعود ملف المدينتين المحتلتين إلى الواجهة مستقبلاً قد يُنذر بتحوّل بنيوي في هذه العلاقات. ويبدو أنّ المغرب بات يُدرك أنّ تحالفاته الجديدة قد تمكّنه من مداخل مغايرة لتحريك الملف، محاولاً، في ذلك، تجنّب المداخل ذات التكلفة العالية. ولعلّ هذا ما يُقلق إسبانيا التي بدأت تستشعر المخاطر الجيوسياسية التي تنطوي عليها الاستراتيجية المغربية الجديدة ضمن المنظور البعيد، خصوصاً أنّ حقائق الجغرافيا والتاريخ تقف إلى جانب الحقّ المغربي في استعادة المدينتين.