هذه الشعبوية المتنامية في أوروبا
يَشغلُ الحديث عن الظاهرة الشعبوية في أوروبا، في الوقت الحاضر، حيّزاً كبيراً من النقاشات السياسية، فصعود العديد من أحزاب اليمين الشعبوي في السنوات القليلة الماضية، ونجاحها في تحقيق نتائج مُهمّة في الانتخابات بدول أوروبية عديدة، أصبح سمّة مُميِّزة للمشهد العام في أوروبا، كان جديدها أخيراً تحقيق بعض أحزاب اليمين الشعبوي انتصاراتٍ واضحة وكبيرة في انتخابات البرلمان الأوروبي، ولا سيّما في بعض الدول الأوروبية الكبيرة والمُهمّة، كفرنسا وألمانيا وإيطاليا، الأمر الذي أحدث هزّة كبيرة وغير مسبوقة للاتحاد الأوروبي، على الصعيدَين، الجمعي والأحادي، منذ تأسيسه، بعد أن أصبحت أحزاب اليمين الشعبوي مُهيمنة بشكلّ متزايد في المشهد السياسي في عديدٍ من دول الاتحاد، كالمجر التي يحكمها اليميني المتطرّف، فيكتور أوربان، وهولندا التي حقّق فيها حزب الحرّية، بقيادة خيرت فيلدرز، اليميني الأشدّ تطرّفاً ومعاداة للهجرة وللمسلمين، فوزاً كبيراً، وبولندا التي ينشط فيها بشكل قوي حزب القانون والعدالة ذو التوجّهات المُتطرّفة، والسويد التي حقّق فيها اليمين المُتطرّف نتائج مُهمّة، والبرتغال التي حقّق فيها حزب كفى، اليميني الشعبوي، المركز الثالث في الترتيب العام، أخيراً، في انتخابات عام 2024.
يُشير مصطلح الشعبوية في الاستعمال الدارج، اليوم، في الخطاب السياسي والإعلامي إلى نوع من الخطاب السياسي، الذي يرمي إلى دغدغة مشاعر الناس البسطاء، وتوظيف منطق تبسيطي يُقدّم نوعاً من الحلول التبسيطية السهلة والسريعة لحلّ المشكلات من خلال الهجوم على المؤسّسة، كما يُشير أيضاً إلى نوع من الخطاب السياسي غير المسؤول، أو الخطاب الذي يُراهن على الجماعات الاجتماعية التي تُعاني من الإقصاء والتهميش، ويقوم على مواقف قومية مُتشدّدة مناهضة للهجرة ومنحازة للقضايا الداخليّة، يرفع شعار الهوية الوطنية والسيادة الشعبية، ويُعادي العولمة والتعدّدية الثقافية والدينية. وبالتالي، فالشعبوية المتنامية اليوم في أوروبا، المدعومة بفكرة مناصرة القومية، لا يمكن ربطها بناخبين مُحدّدين أو بمواصفات سوسيولوجية معيّنة، فهي ليست أيديولوجيا سميكة، كما هي الحال مع الاشتراكية والليبرالية، لأنّها لا تعطي تفسيراً ولا حلولاً لمعظم الظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكنّ للشعبوية منطقاً خاصّاً ومُحدّداً ينطوي على أنّ الشعبويين ليسوا معادين للنُخبَة فقط، ولكنّهم مُعادون للتعدّدية من ناحية المبدأ. وهذا ما يظهر من خلال ادّعائهم الدائم بالقول "نحن ونحن فقط من يُمثّل الشعب الحقيقي"، وكذلك في مواقفهم السياسية التي تعتمد على المعيار الأخلاقي للتمييز ما بين الخطأ والصواب، لهذا، لا تدّعي معظم أحزاب اليمين الشعبوي اليوم في أوروبا أنّ الشعب محكوم من نُخبَة غريبة عنه، كما فعل قوميون عديدون في القرن التاسع عشر، وإنّما ترى أنّ الشعب محكوم من نُخبَة وضعت مصالحها ومصالح المهاجرين والأجانب الغرباء على حساب مصالح الشعب.
يُمثّل ظهور الشعبويات، في العادة، إخفاقاً للبعد العقلاني في السياسة
لذلك، باتت سردية هذه الأحزاب تمتلك جاذبية متزايدة، بسبب تركيزها على قضايا تثير حساسية الرأي العام، مثل قضايا الإسلاموفوبيا والمهاجرين، الذين يُشكّلون، وفقاً لادّعائهم، تهديداً للقيم الثقافية والتركيبة الديمغرافية والوظائف والخدمات الاجتماعية، إلى جانب تركيزهم على مواضيع العولمة والأتمتة والسياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة التي أسهمت، وفقاً لرؤيتهم، في تخلّفهم عن الركب. وبذلك، تركّز سردية هذه الأحزاب، اليوم، مع تزايد وجودها في مؤسّسات الاتحاد الأوروبي على تقليص دور الاتحاد، وتدعو إلى إعادة صلاحيات الدول الأعضاء على حساب المؤسّسات الأوروبية، والتأكيد على أهمّية السيادة الوطنية، والحدّ من التعاون الدولي، وتروّج خطاباً عنصرياً وكراهية ضدّ الأقليات، وخطاباً معادياً للأجانب والمهاجرين، وتطبيق سياسات صارمة ضدّ الهجرة، كما تروّج الحمائية التجارية وتُعارض حرّية التجارة، وتسعى إلى فرض قيود أكبر على الاستثمار الأجنبي، كما تُروّج سياساتٍ خارجية عدوانية، وتُطالب بزيادة الإنفاق العسكري، وتسعى إلى تقليص التعاون الأمني الأوروبي، وتخفيف معايير حقوق الإنسان.
خلاصة القول: يُمثّل ظهور الشعبويات، في العادة، إخفاقاً للبعد العقلاني في السياسة. لذلك، سيكون لاتساع الكتلة الانتخابية لليمين الشعبوي في دول أوروبية عدة، وخصوصاً التي تُمثّل مركز الثقل في الاتحاد، كفرنسا وألمانيا، إلى جانب تنامي سيطرة اليمين الشعبوي داخل المؤسّسة الأوروبية التي ترسم استراتيجيات الاتحاد وعلاقاته الخارجية ومستقبله السياسي والاقتصادي، سيكون له تأثير في منظومة التشريع والقوانين، وفي السياسات الخارجية للاتحاد وعلاقاته التجارية والاقتصادية، الأمر الذي قد يحمل تهديداتٍ ومخاطرَ بالغة الأثر في الاتحاد الأوروبي تكتّلاً إقليمياً فاعلاً إقليمياً ودولياً، ويجعل القارّة العجوز أمام مُفترَق طُرُقٍ، وخيارات صعبة، لجهة الاستحقاقات الديمقراطية الداخليّة، وهو ما يثير القلق المتزايد في الدول ذات الثقل السياسي والاقتصادي في الاتحاد الأوروبي، ويُجبر الأحزاب التقليدية على مواجهة القضايا الأساسية التي تُغذّي هذا الصعود، لا سيّما أنّ صعود هذه الأحزاب يأتي على حساب أحزاب اليسار ويمين الوسط والخضر، الذين فقدوا في السنوات الماضية كثيراً من أصوات العمّال والشباب وطبقة المُتضرّرين من الأزمات الاقتصاديّة في مختلف القطاعات الإنتاجيّة وسوق العمل.