هذه الصورة من الجزائر

04 نوفمبر 2024

تبّون يتوسط غالي وقيس سعيد ومحمد المنفي وولد الغزواني (موقع وكالة الأنباء الجزائرية)

+ الخط -

تتدافع الصور التي بلا عددٍ من غزّة ولبنان، فتُتعبُ أرواحَنا وتكاد تشلعُها. تريد أن تتخفّف عيناك منها، قسطاً من الوقت، فتُحاول أن تعثر على صور من بلاد العرب، من غير التي تتوطّن فيها الحروب الأهلية وسواها، فتًصادِف واحدةً تستوقفك غصباً عنك، فتتملّى فيها، فتراها تؤشّر إلى لونٍ آخر من خراب أحوال الأمة. وأفترض هنا أنها صورةٌ تبعثُ على انتباه الصحافي العربي، المفترَض أنه منهمٌّ بهذا الخراب. جاءت من الجزائر، حيث احتفل شعب هذا البلد وجيشُه وقيادتُه بإحياء الذكرى السبعين لاندلاع "الثورة التحريرية المجيدة". ومن اللياقة هنا أن يُهنّأ الشعب الجزائري الذي نحبّ بالمناسبة، وبما يعتدُّ به جيشُه من أسلحةٍ ومنظوماتٍ صاروخيةٍ متقدّمة لديه، أظهرها في الاستعراض العسكري المهيب الذي نظّمه في الذكرى في عاصمة البلاد أمام الجزائريين وضيوفهم، والذي التُقطت الصورة قبيلََه بدقائق، وطيّرتها وكالة الأنباء الرسمية، مع مثيلاتٍ لها وأخرياتٍ من غير جنسِها، لتنطق بمرسلاتٍ تُفصح عن نفسها من غير تأويلٍ أو ترميز. وإذا كان من التعسّف والشطط أن تُوازى هذه الصورة مع تلك الصور المتتابعة من لبنان وغزّة، في غضون العدوانَيْن الإسرائيليين إياهما، فإنه قد لا يكون تزيّداً أن يُفترض أنها قرينةٌ على مقطعٍ آخر في مشهد خراب الحال العربي الذي لولاه لما تمادى الوحش الإسرائيلي في الإبادة التي يرتكبها في غزّة، ولا شنّ جرائم الحرب التي يواصلها في لبنان.
تجمع الصورة الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبّون، مع نظيريْه، الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني والتونسي قيس سعيّد، ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، ومعهم رئيس ما تسمّيها الجزائر (وغيرُها) الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، إبراهيم غالي. ولمّا كانت الجزائر وموريتانيا وتونس وليبيا والمغرب تشكّل "اتحاد المغرب العربي" (تكريم الميت دفنه لكن مراسم دفنه لم تتقرّر بعد!)، الذي أُعلن في مراكش في فبراير/ شباط 1989، فإن بديهيّ البديهيات أن يتمثّل المغرب نفسُه في جلسة كهذه، وليست "الجمهورية" (المتوهّمة بنعت المغاربة) الذي استقبل الرئيس تبّون "رئيسها" في مراسم رسمية في مطار العاصمة، وهو القادم بطائرةٍ من الأراضي الجزائرية نفسها. ولمّا كنّا نعرف أن العلاقات مقطوعةٌ بين الجزائر المحتفلة بعيد ثورتها والمملكة الجارة، لأسبابٍ تتنوّع سرودُها ليس المُقام هنا لها، فإنّ لواحدنا أن يفهم غياب ملك المغرب أو من يمثله في جلسةٍ كهذه، وبين حضور الاحتفال والعرض العسكري، لكن استضافة إبراهيم غالي بمراسيم رئاسية، وبمماثلةٍ مع رئيسيْ تونس وموريتانيا (ورئيس ليبيا) في الجلسة المتحدّث عنها، والبُلدان الثلاثة لم تُشهر أيٌّ منها اعترافاً بـ"الجمهورية الصحراوية"، يجعل الصورة الرباعية ونشرَها مقصودَيْن، ليس فقط لمزيدٍ من التأزيم مع المغرب، بل أيضاً لتوتيرٍ مطلوبٍ بين الرباط وكل من نواكشوط وطرابلس الغرب، وللمضيّ في تعطيل العلاقات الدبلوماسية مع تونس التي كان رئيسُها قد خصّ، قبل أزيد من عامين، رئيس "الجمهورية الصحراوية" باستقبالٍ رئاسي. وفي الوسع أن يذهب تحليلٌ يتوافر على حُججه إلى أنّ الجزائر (الجيش والرئاسة) إنما أرادت إبلاغ فرنسا بردٍّ كهذا على اعترافها (المتأخّر) بمغربيّة الصحراء، الذي تعزّز في زيارة الدولة التي أدّاها الرئيس ماكرون للرباط الأسبوع الماضي، وقد قيل إن الأخير، في إعلانه، السبت الماضي، اعترافاً صريحاً بأن الجيش الفرنسي هو من قتل الثائر الجزائري العربي بن مهيدي في 1957، أراد ترضية الجزائر، غير أن هذا قولٌ ناقصُ الحجّة.
لا يسمح القاع الذي يقيم فيه النظام العربي الرسمي بأي تحرّكٍ جدّيٍ يتوسّط من أجل إعادة العلاقات الجزائرية المغربية إلى برودها التاريخي المعلوم، على ما كانت الرياض والقاهرة تفعلان في غضون توتّرات "تقليدية" قديمة. وليس من إرادةٍ سياسيةٍ لدى الرئاسة الجزائرية باتجاه الحدّ من التدهور المتسارع في هذه العلاقات المقطوعة على كل الأصعدة. وها نحن، بعد عدم تصويت الجزائر، العضو في مجلس الأمن، الخميس الماضي، مع تمديد تفويض بعثة الأمم المتحدة في الصحراء (الغربية) عاماً، بسبب رفض مقترحيْن تقدمت بهما، يهدفان إلى تعديلٍ في مهمّات البعثة، وبعد نوباتٍ لا عد لها من أوجه التأزيم المطرد في علاقات البلدين، نلقى صورةًً يتمثل كيان انفصالي فيها، في بلدٍ عربيٍّ عظيم المكانة في نفوسنا، وملهمٍ في فلسطين ولبنان... وكل العالم.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.