هل أخمد غزو أوكرانيا ثورةً ضد بوتين؟
قد يكون الخوف من اندلاع ثورةٍ شعبيةٍ ضد حكم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أحد الدوافع التي عجّلت بقراره غزو أوكرانيا، على الرغم من كل التحذيرات التي وجهها الغرب له مرفقةً بتوضيحاتٍ عن عواقبه. لذلك لم يكن ينقص بوتين أزمة القرم التي عزلت بلاده، لتأتي حالة عدم الرضا الشعبي عن تمديده لنفسه في الرئاسة مدى الحياة، وليزداد وجع رأسه جرّاء فرض النموذج الديمقراطي الناشئ في أوكرانيا نفسه في الفلك الروسي السابق. وما الأصوات المعارضة سياساته، والتي تخرج بين فينة وأخرى، سوى الجمر الذي تحاول سياسة القمع أن تُبقيها تحت رماد الضحايا الذين سمّمهم رجال بوتين الأقوياء.
تفيد الحجج الواهية التي ساقها بوتين لتبرير غزوه أوكرانيا بأن ثمّة أسباب أخرى، حقيقية، دفعت إلى هذا الغزو. ربما في قرارة نفسه يعيش بوتين هاجس أن ينتفض أبناء بلاده ضده بسبب سياساته القمعية التي تكلّلت بالتعديلات الدستورية التي أقرّها سنة 2020، والكفيلة بتنصيبه حاكماً فردياً مدى الحياة. واستمرّت السياسات القمعية سنواتٍ طويلة، راح ضحيتها معارضون بارزون، اعتقالاً أو تسميماً أو تصفية مباشرة، وقد اتبعها لمنع نضوج معارضة فعالة، ووأد ثورةٍ قابلةٍ للاندلاع في أي وقت. لذلك، ربما رأى الرجل أن اللجوء إلى سياسة تصدير الأزمات، وتحقيق شيءٍ كبير، من قبيل هذا الغزو المترافق مع تأجيج العصبية القومية الروسية، وترويج فكرة إعادة المجد للإمبراطورية الروسية، قد تساعده في مواجهة النقمة التي تتصاعد ضد حكمه الفردي. فقد أدرك الشعب الروسي مبكّراً أن بوتين يخطّط للبقاء في الحكم مدى الحياة في ظل ديكتاتورية إلغائية، حدث ذلك سنة 2012 عندما ترشّح مرة ثالثة للانتخابات الرئاسية.
وبدأت الاحتجاجات في ربيع تلك السنة، عندما تظاهر مئات لآلاف ضد ترشّحه، وضد ما سُميَ يومها "إمبراطورية بوتين" المتحالفة مع الطغمة المالية، والتي تلقى التغطية من بطاركة الكنيسة الأرثوذكسية. وسبقت هذه الاحتجاجات أخرى شهدتها البلاد سنة 2011، بسبب التزوير الذي شهدته الانتخابات البرلمانية التي ترافقت مع قمع المعارضة لمنعها من المشاركة في الترشيح والتصويت، ما منح حزبه، روسيا الموحدة، أغلبية برلمانية. ويعد هذا مؤشّراً على ديكتاتورية أخذت تعبِّد الطريق لحكم شمولي شعبوي، سيلجأ، بعد أن أعادت الاحتجاجات الروح للمعارضة، إلى ضم القرم، من أجل زيادة شعبيته.
الممارسات البوتينية، بيّنت للجميع أن النظام لن يتنازل ويغير في نهجه الذي خطه له بوتين منذ لحظة وصوله إلى الحكم سنة 2000
أما إحدى الأزمات التي يريد بوتين تصديرها وظلّت ضاغطة عليه من سنة 2014، فهي معضلة القرم التي أدخلته في ورطة أفقدته القدرة على التقدّم، وكذلك على التراجع. وتعزّزت هذه المعضلة مع العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا في أعقاب ضم هذه المنطقة، ثم طردِها من عدة منظمات وتكتلات دولية. وقد تحدَّث عن هذه الورطة رجل الحرب القوي، إيغور ستريلكوف، الذي لمع نجمه خلال التوغل الروسي في شرق أوكرانيا، في إبريل/ نيسان 2014، وصُنّف في الغرب وأوكرانيا مجرم حرب بسبب الجرائم والإعدامات والانتهاكات التي ارتكبها هناك. فبعد سنتين من حرب ضم القرم، بدأ ستريلكوف ينتقد الكرملين، بسبب الخطوات التي اتخذها بوتين، وقال إنها ستؤدّي إلى انهيار النظام. وقال يومها إن الرئيس وصل إلى نقطة اللاعودة، ولا أفكار لديه عن سبل الخلاص من هذه الورطة، ووصفه بأنه كمن ينتظر حدوث معجزةٍ لأنه بات عالقاً وسط مستنقع.
لعب بوتين على وتر المتوالية الروسية المعروفة تاريخياً، والتي تتلخّص بتأييد أبناء الشعب الروسي أي مسعىً إلى حجز مكانة مرموقة لبلادهم على الساحة الدولية، مقابل تضحيتهم بحرّياتهم ورفاهيتهم، واستعدادهم لتحمّل الفاقة والفقر والاستبداد الذي يترتّب على هذا الأمر، أملاً في نعيمٍ نادراً ما أقام بين ظهرانيهم. من هنا ارتفعت شعبية بوتين بعد ضم شبه جزيرة القرم، ثم بعد تدخله في سورية أواخر سبتمبر/ أيلول 2015. غير أن هذا الأمر لم يستمر؛ إذ جلب ضمّ القرم عقوباتٍ غربية، قابلة للتجديد كل ستة أشهر، انعكست سلباً على مستوى معيشة المواطنين، وتسببت في فقدان سلع كثيرة، وقيّدت حرية سفر الروس حول العالم وتجارتهم.
لم يحقّق بوتين سوى العزلة الدولية والعقوبات التي ألحقت أضراراً جديةً باقتصاد البلاد، وأخرجتها من النظام المالي العالمي
وفي ظل هذا الواقع، انخفضت شعبية بوتين، ثم جاءت الانتخابات البرلمانية سنة 2019 لتظهر وجه النظام الحقيقي، غير المبالي بمطالب الشعب وبتوقه لقطف ثمار تضحياته. كما أظهرت مدى استهتار النظام بهذا الشعب وإرادته، وكذلك استمراره بسياسة توليد نفسه من نفسه، عبر فرض أزلامه ومنعه 60 معارضاً من الترشّح لخوضها، ليجعلها انتخاباتٍ صورية تكشف مدى غياب الديمقراطية. لذلك خرجت احتجاجاتٌ غير مسبوقة في موسكو، واجهها النظام بالقمع، وزجَّ آلاف المشاركين في التظاهرات في السجون. وإذ نجحت المعارضة بفضح سياسات بوتين، لفّق نظامه الأكاذيب والاتهامات للمعارضين، وجرَّم المنظمات غير الحكومية، واتهمها بالعمالة. وأكدت هذه الممارسات للجميع أن النظام لن يتنازل ويغير في نهجه الذي خطه له بوتين منذ لحظة وصوله إلى الحكم سنة 2000، حتى لو تطلب الأمر قتل كل المعارضين، أو حتى لو تسبّب في نبذه خارج كل مؤسسات المجتمع الدولي، كما يحصل حالياً.
الآن مع غزو أوكرانيا الذي بدأ قبل أشهر، لم يحقّق بوتين سوى العزلة الدولية والعقوبات التي ألحقت أضراراً جديةً باقتصاد البلاد، وأخرجتها خارج النظام المالي العالمي. كما تسبّب الغزو بظهور اتجاه لدى الغرب للاستغناء عن نفط روسيا وغازها وقمحها، من خلال إيجاد بدائل دائمة، وهو ما سيحرمها من عوائد مالية ضخمة. ويمكن الجزم بأن بوتين لم يكن جاهلاً هذه العواقب، لأنه أقرَّ، مع الأيام الأولى للغزو، قوانين تمنع أي معارضة له وتقيد الحريات، حتى بات أي انتقاد للغزو يكلّف أصحابه السجن مددا قد تصل إلى 15 سنة. لذلك، بدا بوتين وكأنه قد غامر بكل شيء، واتخذ قرار الحرب، لا للسيطرة على أوكرانيا واجتثاث قومييها، حسب ما قال، بل لتصدير أزماته، ومنها الاحتجاجات التي يغامر بمستقبل بلاده فيدمره، مقابل ألا تتكرّس نزعة الاحتجاج وتحقق ما تطالب به، كما في أي دولةٍ طبيعيةٍ.