هل أطلقت إيران "ثورات العطش"؟
سواءٌ كان العطش وحده ما أطلق غضب المتظاهرين، أو كان شرارة انطلاق هذا الغضب وحسب، يبقى "غضب العطش" منعطفًا في تاريخ منطقةٍ يتهدد الموت بعض شعوبها. وإيران التي انطلقت فيها أول مظاهرة بسبب شحّ المياه في تاريخ المنطقة هي نفسها البلد التي انطلقت منه أول ثورة أيديولوجية حقيقية في تاريخنا الحديث. ولا تزال هذه الثورة تعتبر بداية الاضطراب الكبير المستمر من العراق إلى تونس، ومن سورية إلى السودان. المحرّك الجديد "المحتمل" للغضب، والذي قد يهدّد استقرار عدة أنظمة: ندرة موارد المياه، وهي أزمة تمسك بخناق الأردن وفلسطين المحتلة وسورية والعراق ومصر والسودان. ومع إدراك المواطن الإيراني حقيقة أن دولته تحكمها بنية أمنية/ عسكرية قد تكون من بين الأقوى في العالم، إلا أن خطر فقدان مصدر الدخل الرئيس بالنسبة لملايين الفلاحين، أو خطر مواجهة الموت عطشًا، كانا فعليًا، كافيين لإخراج الغاضبين عن صمتهم... هذه خلاصة الدرس الإيراني.
والغضب "الافتراضي" المصري الذي أطلقته التطورات أخيرا في أزمة سد النهضة يشير إلى الحقيقة نفسها: العطش يعني الموت، وقد يُنضِجُ الغضب. وبهذا المعنى، فإن الافتراضي يمكن أن يتحوّل إلى حقيقي متعين. وقد يطلق العطش موجةً غير متوقعة من إطاحة النظم السياسية، دونما حاجةٍ إلى خطاب ثوري بالمعنى الكلاسيكي، ومن دون حاجة إلى صراعات رؤى. وقياسًا على ما حدث بعد انطلاق الثورة التونسية في 2010، من المتوقع أن يشهد الفضاء العام في مصر جدلًا بشأن التشابه والاختلاف بين مصر وإيران، وعن احتمال انتقال الغضب بـ"العدوى". وقد شهدت الأسابيع التي تلت "ثورة الياسمين" إلحاحًا على مقولة: "مصر ليست تونس".
ندرة موارد المياه، أزمة تمسك بخناق الأردن وفلسطين المحتلة وسورية والعراق ومصر والسودان
والتقاطعات المحتملة بين العطش وأسباب السخط الأخرى تتسم بالتعقيد، فالصراع السياسي/ المذهبي في العراق جعل ملف التردّي الشديد في حال نهري دجلة والفرات خلال سنوات متتالية كما لو كان تحدّيًا مهملًا. والأمر نفسه ينطبق على الحرب الأهلية التي نجمت عن الثورة في سورية. وكلتا الدولتين فقدت جزءًا كبيرًا من مواردها المائية. وقد توقف محلّلون باهتمام شديد أمام الاتفاق الأردني الإسرائيلي أخيرا لشراء المياه، بوصفه قاعدة جديدة يُراد إرساؤها إقليميًا، ليُصبح الماء، لأول مرة في تاريخ المنطقة، سلعة تباع وتشترى. ويذهب بعضهم بخياله بعيدًا، مؤكدًا أن حلًا إسرائيليًا جاهزًا للطرح في اللحظة الأخيرة في أزمة سد النهضة، تحصل مصر بمقتضاه على "حصتها التاريخية"، في مقابل أن تصبح معبرًا لفائض المياه الإثيوبي إلى إسرائيل، عبر خط لنقل المياه وصل بالفعل إلى الجانب الآخر من قناة السويس. وفي ظل السابقة التاريخية الأردنية/ الإسرائيلية، ربما تتحوّل إسرائيل، بالاتفاق مع إثيوبيا، إلى المتحكّم الرئيس في سوق لبيع المياه تشمل الأردن وسورية والعراق، ما يرشّحها لأن تصبح المتحكّم الرئيس في حياة سكان "الشرق الأدنى" كله، "من النيل إلى الفرات".
إن خطر فقدان مصدر الدخل الرئيس بالنسبة لملايين الفلاحين، أو خطر مواجهة الموت عطشًا، كانا فعليًا، كافيين لإخراج الغاضبين عن صمتهم
وحتى كتابة هذه السطور، انتقلت التظاهرات الغاضبة في إيران إلى العاصمة طهران، ساخطة على الواقع السياسي كله، ما يعني أن احتمال أن يصبح النظام السياسي في مرمى مطالباتٍ بسقوطه، بسبب شبح العطش، ليس أمرًا مستبعدًا. ولا جدوى هنا من الشجار بشأن الوزن النسبي لكل دافع محتمل للغضب، فالسخط قد يدفعه الغضب أو الإحباط أو الخوف، أو خليط من ذلك كله. والمفارقة التي تتمثل في تردّي الأوضاع المعيشية في عربستان أو الأحواز، مقارنة بما تقدّمه أراضيها من موارد نفطية للاقتصاد الوطني الإيراني، درسٌ ينبغي استيعابه، فحرمان المواطن من أن يكون له نصيب "فعلي" من الدخل الوطني لبلاده، لا يعبأ كثيرًا، لا بالأرقام والإحصاءات، ولا بالإشادات، ولا بالشعارات، وسخطه سوف يبقى متقدًا تحت رماد القمع، ينتظر الفرصة لينفجر. وفي الحالة المصرية، يحمل شبح العطش مخاطر مباشرة وغير مباشرة، يمكن أن تمسّ عشرات الملايين مساسًا مباشرًا أو غير مباشر. وبعد حسابات المكاسب والخسائر، بل ربما قبلها، تظل قضية سد النهضة لكثيرين قضية كرامة ومصير. وقد يلخص ذلك ما كتبه الفقيه الدستوري والمفكر اليساري، نور فرحات، على "فيسبوك"، يقول واصفًا الملء الثاني لسد النهضة: "هو أخطر حدث مؤثر تعرّضت له حضارة مصر منذ فجر التاريخ"!